الفصل السابع عشر


أنهى مذاكرته وجلس على حاسوبه، سجل دخوله إلى مواقع التواصل الإجتماعي بالترتيب فيس بوك ثم تويتر ليتابع أخر الأخبار وإن جد جديد.
بحث عنها في قائمة الأصدقاء ولكنها لم تكن متوفرة، جلس يعبث في هذا أو يقرأ ذاك حتى أضاء الضوء الأخضر مشيراً لدخولها لنفس الموقع.
أسرع يحدثها وهي تجيبه حتى أنقضت أربع ساعات دون أن يشعر أياً منهما، حان وقت نومها للذهاب إلى المدرسة صباحاً كذلك هو.
أغلق صفحته الشخصية واندفع داخل سريره بشوق إلى الأحلام الوردية ورؤيته لها في منامه، متناسياً حديثه مع شقيقته الذي لم يؤثر به ربع التأثير.
***
جلست على الأريكة في غرفتهما وهو إلى جوارها، يمسك يدها الغارقة بين كفيه، تنهد مبتسماً بهدوء ليخفف من وطأة الموقف: أنا معترف إني غلطان في معاملتي ليكي الأسبوع اللي عدا دا، بس حطي نفسك مكاني .. أختي عندها السرطان وأنا ما أعرفش .. وبعدين أكتشف إن مراتي عارفه وما قالتليش .. كنت لسه بأديكي الأمان وبنحدد حياتنا سوا هتبقى ماشيه إزاي .. وألاقيكي مخبية عني حاجه مهمة زي دي
قالت بصوت خافت: والله ما كان بإيدي، نجلاء هي اللي أصرت أني ما أقولش لحد وما حبتش أرفض عشان لما تروح الجلسة تبقى تقولي .. عشان ما تبقاش لوحدها .. وما كنتش عايزاها تفقد ثقتها فيا
رد ببرود قاسِ: بس إنتي فضلتي ثقتها هي فيكي على ثقتي أنا فيكي !
طرفت الدموع من عينيها بغزارة: أسفة، أنا ماكنتش أعرف إن كل دا هيحصل، كنت فاكرة إنها هي هتقولكوا بعد ما تهدا من صدمتها شوية وتبقى عرفت منها
ترك يديها وأمسك وجهها يمحو الدموع وقد تمزق قلبه لرؤيتها: طب إنتي بتعيطي ليه دلوقتي؟ مش إحنا أتفقنا إننا هنتكلم بهدوء زي إتنين كبار عاقلين؟؟
أومأت في صمت فتابع: وإنتي فاكره لما أشوفك بتعيطي أنا كدا هأفضل عاقل؟
رفعت رأسها إليه وحدقت في عيونه بقوة لتستشف مقصد كلامه، دفعها عنه بروية ناهضاً، تخلل شعره بأصابعه متمتماً بعصبية: يا بنت الحلال ما تستفزنيش !
أجابتها ببراءة وملائكية: هو أنا عملت حاجه ؟
عاد للجلوس جوارها بسرعة وتناول وجهها بين كفيه، لثم شفتيها في شوق ورغبة، صدمها ما يفعله لكنها شعرت بدقات قلبها تتنافس، وجسدها يفقد قدرته على البقاء متوازناً، ارتفعت يديها لا شعورياً تحيط بعنقه لكنه فجأة دفعها كما ضمها.
أمسكها من كتفيها وهزها بعنف: اتهدي بقى اتهدي .. هتبوظي كل اللي بأخطط له، ببراءتك دي واستهبالك
عقدت حاجبيها وذراعيها: حاضر، بس إيه اللي بتخطط له ؟
تنهد بقوة: الأول لازم نقفل المشكلة اللي حصلت دي عشان ما تتكررش تاني، ماشي؟
أكمل عندما رأى موافقتها فهي لا تريد أن يغضب منها مرة أخرى: لما تحصل أي حاجه تخصك أو تخص حد من عيلتنا يبقى لازم تقوليلي .. حتى لو الجن الأزرق قالك ما تقوليش لحد .. أنا لازم أعرف كل كبيرة وصغيرة عنك وعن أي حد يخصنا .. غير كدا مش عايز أعرف حاجه .. أتفقنا ؟؟
هزت رأسها: أتفقنا
نهض فسألته إلى أين هو ذاهب، أجابها: ثواني وراجع
جلست تنتظره وهو لم يغب، عاد وفي يده عدداً من المجلات ناولها إياها وأنضم إلى جوارها: أختاري منهم اللي يعجبك ولو ما عجبكيش حاجه أجيبلك غيرهم أو حتى ننزل ندور بنفسنا
قلبت صفحاتها سريعاً وهمهمت بعدم فهم: دي مجلة أثاث ! هأعمل بيها إيه ؟
أحاط كتفيها بذراعه: إنتي فاكرة إننا هنعيش هنا طول عمرنا ولا إيه ؟ .. أكيد هيبقلنا شقة خاصة بينا .. الشقة موجودة هأخدك بكرة تتفرجي عليها، أنا مشطبها وعامل الديكورات بس ناقص العفش
غمزها: ودا عليك أنت بقى يا جميل .. أنا واثق ف ذوقك
جعدت نفسها بين أحضانه وعاقدة ذراعيها خلف عنقه هاتفة: بجد ؟؟ أنا مش مصدقة نفسي
استنشق عبير رائحتها لكنه أبعدها على مضض، زفر بحدة: يا زفتة إنتي !.. مش قولتلك أتهدي ! .. هتخليني أتهور ومش هأقدر أستنى للفرح
عادت تجلس مكانها وعدم الفهم عاد إلى عقلها: فرح ؟ .. فرح إيه ؟؟
حدثها كأنه يتكلم إلى طفلة وهو يحل حجابها الذي لم تفكر في نزعه منذ عادت: إحنا أتجوزنا من غير فرح ولا أهلك كمان حضروا .. واللي أعرفه أنه كل بنت بتحلم باليوم دا ومن حقها تعيشه .. ولا إيه رأيك ؟
نظرت في الجهة الأخرى وقالت بألم: بس دا لما تكون لسه نضيفه ونقية.. دا رمز اللون الأبيض للفستان وأنا لا دي ولا دي
أمسك ذقنها وأدر وجهها ناحيته، مسح دمعة سقطت من عيونها سهواً، قال بجدية وحزم: إنتي نضيفة أوووي ونقية جداً، اللي حصل دا حصل غصب عنك .. عشان كدا كأنه ما حصلش، أنسيه .. حياتك هتبدأ من معرفتنا لبعض
أسندت رأسها إلى صدره تستشعر الأمان بينما تخلل خصلات شعرها بأصابعه، بعد فترة أبعدها سانداً جبهته إلى جبهتها وقال مازحاً: يا بنتي إنتي ليه مصرة تخليني أتسرع ؟؟ .. هنفرش الشقة وبعدين نعمل الفرح .. وقتها بقى أبقي استفزيني براحتك ع الأخر .. ولو ما استفزتنيش ساعتها .. أنا اللي هاستفزك
نظرت بقوة في عيونه: بس سواء استنينا أو لا .. مش فارقه، هي مش أول مرة ليا
نهض مبتعداً عنها، أغمض عينيه وقبض يديه بشدة محاولاً الهدوء وتمالك أعصابه حتى لا يقول ما لا تحمد عقباه، نظر إليها أخيراً فلمح خوفها وتوجسها، تأكد أنها نادمة على كلمات قالتها دون وعي، خاطبها بهدوء: إحنا مش قولنا ننسى ؟
تمتمت كطفلة أخطأت وتتلقى العتاب: أسفة
أومأ: يلا روحي غيري هدومك عشان ننام، أنا أه هأستنى لحد الفرح بس مش معنى كدا إنك ما تنميش في حضني ع الأقل ..
ابتسمت بفرحة وأتجهت إلى الحمام تبدل ملابسها، ألقى هو جسده على الأريكة متذكراً قدوم والده إلى مكتبه لأول مرة منذ عمله هناك ليحدثه بشأن ما يحدث بينه وبين حياه منذ عادا، نصحه والده: أنتوا لسه ف أول الجواز وكمان ما اتعرفتوش على بعض كفايه قبله .. فأكيد كل واحد لسه ما يعرفش إيه اللي بيضايق التاني وإيه اللي بيحبه، اقعد معاها وفهمها غلطها .. قولها ما بأحبش حد يخبي عني حاجه خصوصاً مراتي .. هي مش هتقولك لا
ثم ضحك غامزاً إياه: وبردو مش هتسمع الكلام ومش هتقولك كل حاجه يعني .. أكيد هتقول مرة وما تقولش عشرة .. عادي .. المهم اللي ما يتقالكش يكون مالوش لازمة ومش هيأثر عليكوا أو على حد يهمكوا سوا .. وهي مرة ف مرة هتميز اللي يتقال واللي لا .. بس الصبر .. الصبر يا حمزه !
استمع لنصائح والده بإنتباه وتيقظ لكنه رفض فكرة مصالحتها، سينتهي الأمر إما عاجلاً أو آجلاً، ولكن ليس الآن أو حتى اليوم .. لكنه لا يدري ماذا حدث له عندما رأها تنظر له برهبة وخشية، وضوء المصباح الذي كانت تقرأ عليه أضاف لوجهها ضعفاً أكثر، مما جعله يتراجع ويبدل وجهه الجامد إلى وجه أخر.
بدل ملابسه كذلك لكن قبل أن يرتدي القطعة العليا من ملابسه خرجت حياه من الحمام، صرخت وأدارت ظهرها لمرأه بهذا الشكل وهي لم ترى رجلاً بدون كامل ملابسه هكذا بحياتها.
ضحك عليها حمزه وبعد أن ارتدى ملابسه توجه إليها وأدارها لتنظر إليه قائلاً بحنان: كل دا وبتقولي إنك مش بريئة ؟؟
رأى أحمرار وجهها يزداد: يا بنتي إنتي مراتي .. مراتي .. المفروض تتعودي على كدا
غمزها بخبث: أومال لما نتجوز بجد هتعملي إيه ؟؟
ضربته بقبضتها الصغيرة على كتفه، وقالت عاقدة حاجبيها بجدية مصطنعة: يا بنتي ومراتي في نفس الجملة ؟؟ .. طب أنا أصدق مين دلوقت ؟ .. وأقولك يا بابا ولا يا جوزي مش فاهمة بردو
نظر لها بمكر وحملها متجهاً إلى الفراش: أنا هأعرفك تقوليلي إيه دلوقت
وضعها على السرير وبدأ يدغدغها حتى كادت أنفاسها تختفي من كثرة الضحك، أخيراً تمدد على الفراش وأخذها بين أحضانه ليستقر رأسها على صدره وما زال جسدها ينتفض إثر موجة الضحك.
صمتا لفترة بعد أن أطفئ حمزه الأنوار إلا من ضوء خافت بجوار السرير، تمتمت حياه بتردد: حمزه
أجابها بصوت لم يدخل في مرحلة النعاس بعد: نعم
- عايزه أقولك على حاجه
- قولي ..
- أنت أتفقت معايا إني ما أخبيش حاجه عنك صح ؟
- صح
سحبت نفسها من بين ذراعيه وجلست معتدلة: كان فيه خبر ف الجرنال على أنهم عملوا كبسة على مكان دعارة
انتصب حمزه كذلك وأعاد فتح الأضواء وسألها بترقب: وبعدين ؟
تنهدت بقوة: مسكوا فيه ناس .. وواحدة من اللي كانوا معايا في الفيلا اللي حبسوني فيها رمت نفسها من المبنى عشان ما يقبضوش عليها .. وواحدة تانية قدرت تهرب وهي قاعدة عند حنان دلوقتي .. بس ..
ضاقت عيونه عليها أكثر: بس إيه ؟
ارتجف جسدها: بس شادي ما قدروش يمسكوه وقدر يهرب منهم
ضمها إلى صدره عائداً إلى وضعية النوم وأطفئ المصباح، ربت على كتفها برقة وقبل قمة رأسها: طول ما أنا معاكي ما تخافيش، ماحدش هيقدر يقرب منك ولا يأذي شعرة منك
استكانت حياه وشعرت بالأمان من نبرة صوته التي تحمل الوعيد لمن يفكر أن يمسسها بسوء، غرقت في النوم بينما ظلت الأفكار تدور وتحوم داخل ثنايا عقله .. يفكر في حل حتى يُنهي هذا الخطر المحيط بحياه إلى الأبد.
***
أتى الصباح محملاً بالسعادة والهدوء منذ أمد لم يطرقوا حياة حياه، عقب الإفطار ذهبت حياه مع حمزه إلى حيث توجد الشقة لتراه وتتخيل الأثاث المناسب لها.
كانت الشقة فسيحة، من ثلاث غرف ومساحة استقبال فسيحة تتسع لطاولة سفرة ومشتملاتها، صالة ومعيشة، كذلك المطبخ يسمح لها بحرية الحركة وبه مساحة لطاولة صغيرة.
نظرت من النافذة الملحقة بالاستقبال لتجد أُصص فارغة، تخيلت شكل النباتات بعد أن تحتويها، ستزرع ورود  لترسل ريحها المنعش إلى أرجاء الشقة.
كان حمزه يتحدث مع حارس البناية بينما هي غارقة في تخيلاتها، اقترب منها حمزه وأخبرها أنه سيذهب مع الحارس ليرى صاحب العمارة حيث أنه لم يأتي إلى هنا منذ زمن وهناك بعض الفواتير وغيرها يريد صاحب العمارة محادثته بشأنها.
وافقت أن تبقى في الشقة تتخيل الأثاث وترى ما يناسب تصميمها من أثاث المجلة التي أحضرتها برفقتها، سيمضي الوقت سريعاً، لأننا عندما نغرق في الأحلام يختلف حساب الزمان.
جلست على أحد الصناديق المقلوبة تضع علامة بجوار الأثاث الذي رأته مناسباً، استغرقها الأمر فلم تشعر بدخول أحدهم من باب الشقة المفتوح على مصرعيه، رفعت رأسها لتتفاجئ بفتاة تكبرها خمسة أعوام على الأقل، ترتدي فستاناً واسعاً يخفي تناسق جسدها يعلوه سترة من الجينز تخفي ذراعها، وعلى رأسها حجاباً بلون ثوبها الأحمر القاني.
اعتقدت أنها إحدى الجارات فابتسمت في وجهها مرحبة: أهلاً وسهلاً
وترتها نظرت الفتاة التي مسحتها من أخمص قدميها إلى أعلى رأسها، رددت كأنها تحدث نفسها: بقى إنتي اللي فضلك عليا ؟
ارتفعا حاجبا حياه تعجباً: أفندم ؟
عقدت الفتاة ذراعيها وابتسمت بسخرية: أنا هاجر
توجهت عيونها إلى الجهة العليا يساراً عسى أن تتذكر، لكنها لم تتعرف عليها: هو أنا أعرف حضرتك ؟
ضحكت ضحكة ضايقت حياه، فكيف لهذه الضحكة أن تخرج من خلف هذه الملابس الدالة على الإحتشام، سألتها: هو حمزة ما حكالكيش عني ولا إيه ؟ .. لم تكن تعلم أنها ترتديها إتباعاً للموضة الدارجة في الوقت الحالي ليس هدفها الإحتشام في حد ذاته.
سألتها بإنزعاج: إنتي مين ؟
بكل ثقة تمتلكها عرفت نفسها: أنا هاجر، حبيبة حمزه وخطيبته
وقفت حياه ونظرت لها بتحدي: قصدك كنتي خطبيبته
لاحظت تشديدها على "كنتي" فقالت بثبات: وكنت حبيبته كمان
أجابتها حياه بغيظ: وأما إنتي عارفه إنك كنتي، إيه اللي جابك ؟
نظرت حولها: أنا ساكنة ف الشارع اللي ورا وكنت معديه من هنا، بعدين جه ف بالي أشوف أخر اللي وصله حمزه في شقتنا اللي كان بيجهزها عشان تكون عشنا السعيد
ابتلعت حياه ريقها بصعوبة، لم يخبرها حمزه عن أنه أختار تلك الشقة لتكون مسكنه مع تلك المرأة، كذلك بجوار بيت خطيبته السابقة ؟؟، أجابتها بهدوء لا تشعر به: بس دلوقتي هيبقى بيتي أنا وحمزه
تطلعت حولها وقالت كأنها تحلم: يــااه نفس الألوان اللي تخيلنا بيتنا هيبقى بيها
أضافت بدلال: كمان كان نفسنا نجيب العفش من "البيت المثالي"
قبضت حياه يديها بحنق، كادت أن تذهب وتسحبها من حجابها وتلقيها خارجاً لكن قدوم حمزه أنقذ تلك المدعية من بين براثنها.
ضاقت عيونه عندما رأى حالة حياه وتمتمت باسم الأخرى بهدوء، إلتفتت إليه باسمة: أزيك يا حمزه؟
- إيه اللي جابك هنا ؟
ضحكت بخلاعة: وحشتني الشقة فجيت أشوفها
ألتوت شفتيه بسخرية: لا والله ؟
اعتدلت في وقفتها قائلة: أيوه .. عن إذنكوا بقى عشان اتأخرت
بدلت نظراتها بينهما: مبروك ولو إنها جايه متأخرة
انتظر خروجها ثم أغلق الباب وعاد إلى الحياه التي صوبت نظرها إلى الخارج، ناداها: حياه
دون أن تلتفت: هي دي كانت هتبقى شقتك أنت وهي ؟
تنهد: حياه
نظرت إليه بقوة غاضبة وشددت على مخارج حروفها: أيوه ولا لا ؟
فرك وجهه بكفه: أيوه
فقدت سيطرتها على نفسها وصرخت به: وأما هو أيوه .. جايبني هنا ليه ؟؟ .. لو كنت فاكرني هي، يبقى تفوق أحسن .. لأن أنا حاجه وهي حاجه تانية !
أمسكها من كتفيها وهزها بعنف صارخاً: ما تزعقيش ف وشي فاهمة ؟؟
صمتت فزعة منه ومن نظراته القاتلة، تركها عندما تأكد من طاعتها له، وضح موقفه: أنا كنت هأقولك بس مشكلة المالك دا والبواب عطلتني .. ما تخيلتش أنها هتيجي وتشوفيها كمان ! .. أيوه كانت الشقة دي جايبها عشان أنا وهي نتجوز فيها أيام لما كانت خطبتي وفاكر إنها بتحبني .. بس هي ما شافتهاش غير مرة واحدة بعد ما مضيت العقد بتاعها ودفعت المقدم
ابتسم بسخرية: وما عجبتهاش وكانت عايزه تغيرها .. لكن لما عرفت أنه خلاص الإجراءات القانونية أنتهت رضيت بالأمر الواقع .. ع الأقل بشكل مؤقت
أشار حوله: بس الألوان أنا اللي أخترتها، أنا اللي عجبني تصميم المطبخ كدا
أتجه إلى النافذة وأشار إلى أصيص النباتات: وأنا اللي حطيت دول هنا مع العلم إنها مش بتحب الزرع
عاد إليها: والأثاث إنتي اللي هتختاريه .. يبقى هي إيه اللي يثبت وجودها هنا ؟
رددت ما قالته لها: هي قالت أنكوا اخترتوا الألوان سوا
هز رأسه: لا، دي تقريباً أول مرة تدخل الشقة دي من ساعة ما شافتها ع الطوب الأحمر .. وأساساً مش بتحب اللون اللبني دا .. ولا درجة الأخضر اللي ف أوضة الأطفال .. يبقى إزاي أختارتهم ؟
- طب والعفش اللي اتفقتوا تجيبوه من نفس المجلة اللي قولتلي أختار منها ؟
ضحك بقوة جعلها تتعجب، أومأ لرأسه إلى شئ ما خلفها: قصدك المجلة اللي إنتي سايباها على الكرتونة دي؟
خجلت حياه لغباءها ولسماحها لتلك الساحرة الشريرة أن تزرع بداخلها شك تجاهه، لم تلحظ في فورة غضبها أن اسم المجلة التي كانت تطالعها كان واضحاً فاستطعت هاجر إلتقاطه بطرف عينها.
- هي مالهاش حاجه هنا، بس لو عايزه ممكن نغير الشقة وأدور على شقة تانية
هتفت بسرعة: يبقى أحسن، عشان ما أشوفش وشها تاني
سألها متعجباً: وإنتي هتشوفيها فين؟
نظرت له بلوم وعتاب: مش هي ساكنة في الشارع اللي ورانا ؟
قطب جبينه: دي والدتها اللي نقلت هنا بعد ما اشتريت الشقة دي، بس هي عايشة ف فيلا مع جوزها لكن مش هنا
صاحت متفاجأة: وأما هي متجوزة إيه اللي جابها ؟
هز كتفيه: مش عارف، يمكن بعد طلاقها رجعت هنا، ما يهمنيش .. المهم إنتي عايزه إيه؟
- عايزه نشوف شقة تانية أحسن
نظر لها بحزن وشوق: بس كدا هناخد وقت .. والفرح هيتأخر !
قفز قلبها من السعادة لرؤية شوقه في بدأهما لحياة جديدة سوياً مما دفع الظنون بعيداً، ضربت شكوكها عرض الحائط وقالت بدلال بينما تعيد ضبط ياقة قميصه: إممممم .. طب خلاص أمري لله .. موافقة ع الشقة دي
أخفت فرحتها لسعادته وأكملت بجدية: بس بشروط !
جذبها إليه: أنت تؤمر يا جميل
بسطت كفيها على صدره: أولاً.. هننزل نلف سوا نجيب العفش مش هنجيبه م المجلة دي
قهقه موافقاً: ثانياً .. أنا اللي هأختار أنواع الزرع اللي هنزرعه في الأصاري اللي ف الشباك
نظر لها متعجباً: هو إنتي بتحبي الزرع ؟
رفعت رأسها عالياً بغرور مصطنع: أومال إيه ؟ .. يا ابني أنا متربية وسط الخضرة والزرع إزاي ما أحبهومش ؟ .. وبعدين أنا وسلمى كنا زارعين شجرة برتقان وسط الأرض بتاعت بابا وشجرة مانجه وسط الأرض بتاعت باباها وكل سنة إحنا بنروح نلم الفاكهة دي ونوزعها ع الناس والعيال
نظر لها بعشق لم ينطقه بلسانه لكن نظرته كانت كافية لترتخي أطرافها، قال كأنه يحدث نفسه أكثر مما يحدثها: رغم إني وقت ما اشتريت الشقة دي وبدأت أجهزها كنت مخطوب لهاجر ولسه ف وهم حبها ليا وحبي ليها .. إلا إني كنت بأختار كل حاجه على ذوقي حتى لو عارف إنه مش هيعجبها .. تقريباً كنت بأجهز البيت دا ليكي من قبل حتى ما أشوفك أو أعرف بوجودك
ابتسمت بحب، ظلا يتبادلان النظرات حتى دفعته قائلة بحماس طفولي: يلا بقى ننزل نلحق نلف شوية ونتفرج ع العفش .. مش عايزين نضيع وقت !
أومأ ضاحكاً واتجها يجهزان عشهما الزوجي، حتى مر أسبوع أخر في دوامة شراء الأثاث وترتيبه.
***
اتجهت إلى المستشفى وقلبها يكاد يتوقف نتيجة زيادة التوتر وتسارع دقاته بشكل غير طبيعي، لسان حالها لا يتوقف عن ترديد دعاء سيدنا يونس عندما كان في بطن الحوت "لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين".
سألت عن نتيجة التحليل فطلبت منها الممرضة بإبتسامة هادئة أن تنتظر حتى تتأكد من وجودها أولاً، لم تغب الممرضة أكثر من دقيقتين لكنها شعرت بعمرها كاملاً قد مر.
سلمتها الممرضة الظرف ولما لم تفهم منه شيئاً سألتها، قرأت الممرضة التحليل بتروي وأخبرتها بنفس الإبتسامة نتيجته.
ليس فيه مبالغة إن قلنا أن تنفسها قد توقف، مصيرها قد تحدد، أيعقل أن الدنيا بهذا الصغر؟، أم أن وقت عذابها قد أتى أجل إنتهاءه ؟
سارت في الطرقات لا تدري ماذا تفعل وإلى أين تذهب، حتى وجدت نفسها أسفل البناية وتصعد السلالم غير عابئة بوجود المصعد واستعداده لتوصيلها إلى طابق الذي ترغبه.
***
تقبلت الأم مرض ابنتها وبدأت تقويها وتقوى بقوتها، وجدت نجلاء في مساعدة حياه على تأثيث منزلها وبعدها تجهيز ما يتطلبه العرس منفذ لتشغل به نفسها وتنسى فيه مرضها.
كانت من أسعد أيام حياه، تحسنت علاقتها بحمزه كثيراً وأشتد إرتباطهما سوياً، يأكل العشاء معها ولا ينام إلا بين أحضانها، يحدثها عن بعض ما مر به خلال عمله، يروي لها مشكلات الشركة التي يعمل بها رغم أنها تعجز كثيراً عن مساعدته وإعطاءه الحلول المُثلى إلا أنها تسعد لمشاركته معها في حياته المهنية.
لكن منذ متى تستمر السعادة وتترك لنا الحياة الفرحة دائمة التواجد ؟ .. إن الحياة لها رأي في هذا الشأن، فكلما زادت فترة السعادة كلما سأمناها .. فتختار عنا وقت البلاء لنتفاجئ .. وتختار عنا وقت الرخاء فتسعدنا .. وبين ذلك وذاك تترك لنا حرية الإختيار .. إما بالتقبل والصبر على البلاء فتتحول من مجرد فترة ألم وبعث للعذاب إلى فترة رضا وتحمل للإبتلاء لتكن حُجة لنا يوم البعث ونشعر بالسعادة فور إنزياح الهم .. أو نقضيها بين البكاء والعويل فيزداد الشعور بالغم ونفقد الإحساس عند عودة الفرح.
***
انقلب الوضع واهتز الاستقرار، عم التوتر وساد الغم، جلس الجميع في حالة من الصدمة .. كل شخص قد استقبل الحديث برد فعل مختلف عن الأخر .. فحتى ردود الأفعال تختلف بإختلاف الشخصيات.
نجلاء فاغرة فمها، لا تصدق تلك القصة الخارجة من إحدى الأساطير، أحمد يحوقل وينظر إلى زوجته ودموعها لا تتوقف عن النزول تفكيراً في المصير.
حمزه قاطباً حاجبيه يجمع الأحجية ليحل اللغز ويتأكد من النتيجة، أما حياه فلسان حالها مصدوم فقد جمع الله الإبنة بأمها بعد مرور سنوات من الفراق والعذاب.
 DNAحنان .. بعد أن روت قصتها وحكاية القلادة المعلقة في عنق مي مي والتي أثبت تحليل الـ
أنها فلذة كبدها ومن ولدتها، شعرة صغيرة من رأس حنان مقابل شعرة أصغر من رأس الطفلة أثبتت صحة أمومتها فسبحان العالي المتعالى، بكت حنان أثناء الحديث ومازالت تبكي حتى بعد الإنتهاء.
قطع حمزه الصمت مستفهماً: طب والعمل دلوقتي ؟ .. مي مي إزاي هنقولها ؟
انتفضت سمية صائحة: ونقولها ليه ؟ .. مي مي دي بنتي أنا .. قعدت معايا أكتر من أمها الحقيقية !
فقدت حنان أعصابها هي الأخرى: أديكي قولتي أنا أمها ! .. أنا اللي خلفتها
عنفتها سمية: بس إنتي اللي ضيعتيها ودا عقابك لاستهتارك بيها !
اشتد بكاء حنان حرقة: مش كفاية سنين محرومة منها !، بالاسم أم لكن فين بنتي ؟؟ .. مش كفاية تفكيري طول السنين دي كلها يكون حصلها إيه ؟؟ .. خطفوها ولا بيعذبوها .. نايمة ولا سهرانة من خوفها .. بتعيط ولا بتضحك .. عايشة ولا ميتة .. لو ماتت دفنوها ولا أخد أعضاءها تاجروا بيها .. الرحمة بقى الرحمة !
انهارت في مقعدها، اقتربت منها حياه تواسيها .. استشاطت سمية غضباً تُشير إلى حياه: إنتي السبب ! .. إنتي اللي جبتيها .. لولا إنك عرفتينا عليها ما كناش وصلنا لكدا
وقف أمامها أحمد ونهرها: حرام عليكي يا سمية اللي بتعمليه وتقوليه دا ! .. دا قدر ومكتوب وإنتي عارفه كدا .. لو عن طريق حياه ولا مش عن طريقها كانت هتوصل لبنتها حتى لو عملتي إيه ! .. دي إرادة ربنا ومالناش يد فيها
هزت رأسها رافضة الاستماع لكلام تدركه وتعرف معناه لكن يأبى قلبها تقبله، وقفت نجلاء بجوار أمها تهدأها: يا ماما إنتي فاكرة حالة مي مي أول ما جات كان شكلها إيه ؟؟ .. وإزاي من صدمة فراقها عن مامتها ما كانتش بتتكلم إلا من فترة قريبة ؟؟ .. إزاي قلبك يطاوعك تفرقيهم أكتر من كدا وإنتي شهدتي عذابها !
تدخل حمزة: هي مش هتحرمك منها، ف أي وقت هتشوفيها، هي بس عايزة تعوض السنين اللي فاتتها مع بنتها وتاخدها ف حضنها؛  لكن مش هتاخدها وتعزلها عننا .. لأنها زي ما اتعذبت لفراقها مش هتعذب غيرها
رددت حنان: والله ما هأبعدكوا عنها .. هأجبهالكوا على طول .. بس دي بنتي .. نفسي أرجع أسمع كلمة ماما من بؤها .. تبات ف حضني .. وأسرحلها شعرها .. تحكيلي مشاكلها وأحلها معاها
دارت الدنيا في أعين سمية، أسرع حمزه ووالده بإسنادها وإجلاسها على الأريكة، مرت دقائق من الصمت كأن على رؤوسهم الطير.
سمية بهدوء: وهتقوليلها إزاي ؟
عاد الأمل إلى قلب حنان لكنها تمتمت بحيرة: مش عارفة
اقترحت سمية: فيه دكتور نفسي كنا بنروحله عشان حالتها لما كانت مش بتتكلم، ممكن نسأله وهو يقولنا
أومأت حنان موافقة، نهض أحمد: هأروح أتصل بيه وأحدد معاه معاد
ذهبت نجلاء تعد عصير الليمون علَّه يؤثر في الجميع ويزيل التوتر، عاد أحمد وقد حدد الموعد غداً في الثالثة عصراً.
سمية بذهول متألم: بسرعة كدا ؟
حمزه: أحسن حاجه ف الأمور دي سرعة التصرف وإنها تنتهي بسرعة عشان أعصابنا ترتاح
نهضت حنان بروية: استأذن أنا .. وأسفة على المشاكل اللي عملتها والقلبان اللي حصلكوا بسببي
لم تجبها سمية وإنما اتجهت إلى حجرتها في صمت غاضب، لحقها أحمد بعد أن طمأن حنان أن كل شئ سيكون على ما يرام.
ناولتها نجلاء نصيبها من العصير: أشربي دي هتريحك شوية
تناولتها حنان بلا شعور وبعد أن رشفت رشفة واحدة أعدته إلى الطاولة ونهضت، أمسكتها حياه قبل أن تسقط وقالت: أنا هأروح معاكي ما ينفعش أسيبك ف الحالة دي
نظرت إلى حمزه برجاء: بعد إذنك يا حمزه هأبات معاها إنهارده
أومأ موافقاً: ماشي مافيش مشكلة، هادخل أجيب المفاتيح من جوا وأجي أوصلكوا
أشفقت على حالها نجلاء أفاقها من ذلك رنين هاتفها، انسحبت لتجيب في المطبخ: أيوه يا فادي
- أرجع ولا إيه ؟ .. البت نامت خالص .. وما عادش فيه حاجه أكلها لها تاني
حاولت كتم ضحكتها: الله يجازي شيطانك .. خلاص أرجع .. أصلاً كل واحد راح ف جهة
- طيب، مسافة السكة
أغلقت الخط داعية أن تمر تلك العاصفة على خير.

0 التعليقات:

إرسال تعليق