الفصل الثامن عشر


طلبت حنان أن تنفرد بنفسها وأسرعت إلى غرفتها قبل أن تتسائل جدتها عما حدث، تشبثت الجدة بحياه تطالبها بتفسير للحالة التي عادت فيها حنان.
جلست تروي لها ما حدث وإكتشافها أن مي مي ابنتها، وحدت الجدة ربها باكية: لا إله إلا الله، ياعيني يا بنتي، بقى بنتك قدامك من فترة وإنتي ما تعرفيش ؟ .. لا حول ولا قوة إلا بالله
- المهم ربنا جمعهم مع بعض
- الحمدلله، بس هي ليه حابسه نفسها كدا ؟
- أكيد لسه مش مستوعبة اللي حصل
عقبت فتون التي انضمت إليهم في منتصف الحكاية: وأي عقل يستوعب اللي حصل دا ؟
تمتمت الجدة: ربنا يستر على البنت لما تعرف، يا حبة عيني حياتها كلها هتتشقلب
طمأنتها فتون: ما تقلقيش أكيد الدكتور هيعرف يوصلها الموضوع بطريقة ما تأثرش على نفسيتها، كمان البنت بتحبها أووي ودي أهم حاجه
طلبت حياه من الجدة أن تذهب وترتاح فالغد يحتاج طاقة أكبر مما احتاجوه اليوم، رافقتها فتون لتعطيها دواءها وتتأكد من عدم احتياجها  لشئ  قبل النوم.
دق هاتف حياه معلناً عن وصول رسالة نصية، فتحتها لتجدها من حمزه ونصها: "نمتي ولا لسه ؟"
أجابته وهي تبتسم دون أن تشعر: "لسه"
بعد ثواني وصلتها الرسالة التالية: "هي عامله إيه دلوقتي؟"
- "الحمدلله، اتعشيت؟"
- "لا"
- "ليه؟؟"
- "عشان إنتي مش موجوده تحضريلي العشا :("
- "هههه طب ما تحضره لنفسك .. هو سندوتش الجبنة بقى أزمة؟"
- " طب مين يفتحلي نفسي؟ .. إنتي اتعشيتي؟"
- "لا"
- "يبقى تخرسي خالص وتقومي تتعشي .. ما تعصبنيش !!"
- "ومين يفتحلي نفسي؟ :("
- " بت أتلمي!، مش في الرسايل كمان حرام عليكي .. أنا على أخري وممكن أجي أخدك دلوقتي ونطلع على  ";) بيتنا كمان .. مش أوضة النوم وصلت؟
":P- "اتلم يا قليل الأدب
غرقت في موجة من الضحك أتت على أثرها فتون، جلست إلى جوارها باسمة: يا سلام يا سلام ع الروقان، ما ضحكتك حلوة أهي .. كنتي حرمانا منها ليه؟
وضعت الهاتف جانباً وابتسمت: إن شاء الله مش هأحرمك منها تاني .. المهم إنتي أخبارك إيه؟ .. حياتك استقرت ولا لسه؟
لمعت عيونها بسعادة: ما تعرفيش قد إيه مرتاحة ومبسوطة دلوقتي .. بأمانة ربنا عوضني بيكوا
غمزتها: أمانة أمانة يعني ؟؟
قهقهت فتون وبرقت عينيها: أيوه أمانة
- ليكوا نفس تضحكوا من غيري ؟
نظرتا إليها بخجل، اعتذرت فتون بحياء: أسفة يا حنان .. إحنا مش ..
ألقت بجسدها المستهلك بينهما على الأريكة وهي تضحك ضحكة جوفاء، قالت تخفف عنهما الحرج: أنا مش زعلانه إنكوا بتضحكوا .. أنا زعلت أنكوا ضحكتوا من غيري .. طب كنتوا نادوا عليَّا أضحك معاكوا
نظرت لها حياه ثم نظرت إلى فتون تلك اللفتة التي تسأل هل فقدت عقلها أو أنها أعطته إجازة لفترة ما ؟؟، لاحظت حنان ذلك فبررت متنهدة: اللي خلاني انعزل وأقعد لوحدي .. إني أتوقعت كل واحدة فيكوا هتقولي معلش وطولي بالك ولعله خير .. إلى أخره من الكلام دا .. اللي لا بيقدم ولا بيأخر .. ما أنا عارفه أنه معلش .. وأنا بالي طويل ولله الحمد وحتى لو قصير هيجرا إيه مثلاً ؟.. هتدخلوا تلاقوني معلقة نفسي بكرافته نسيها خليل هنا عشان أحسسه بالذنب يعني ؟؟ .. وأنا ثقتي بالله أكبر من إني أشك أنه اللي بيحصل معايا دا مش خير
نظرت إليهما بعتاب: بس لو أعرف أنه في القاعدة دي ضحك وفرفشة أنا ما كنتش اتخليت عنها أبداً ..
تبادلن إبتسامة صغيرة، وانخرطن في الحديث حتى بكين من كثرة الضحك، في البداية كانت ضحكة خالية من الضحك .. تلك الضحكة التي تبدي أسنانك خلالها وتكون شفتيك على إتساعهما .. فقط لتُنسيك وجعك حتى وإن كان سببها أكثر الأسباب تفاهة في العالم .. لكن سرعان ما نسين كل شئ في العالم إلا تسامرهن، حنان اعتادت على الإختبارات .. لم تعد ترهقها كما السابق فهي تعلمت عن ظهر قلب أن التوكل على الله وترك الأمور لتسير كيفما اختارها هي أسلم الطرق وأكثرها ملائمة للمرء .. توقفت عن تشغيل فكرها فيما ليس بيدها، لكن ظل عقلها يفكر في أمر واحد .. كيفية إخبار خليل بما استجد.
***
أتى الموعد مع الطبيب النفسي بطيئاً، اختفت الضحكات كأن ألف ليلة قد مرت عليها من الشقاء ليس فقط سطوع شمس يوم واحد جديد.
توجه حمزه برفقة والديه ومي مي إلى عيادة الطبيب فيما ظلت حياه برفقة حنان في إنتظار الأخبار، جلس الطبيب في البداية معهم يتحدث إليهم ويلم بالموقف بأكمله ليحدد أنسب وضع وأسلم طريقة لتوصيل الأمور إلى عقل مي مي بطريقة يستطيع عقلها تقبله.
علق الطبيب بعد أن أنهوا حكايتهم: إمممم، هأتكلم معاها الأول لوحدنا وبعدين أقولكوا إيه اللي هنعمله
صمتوا جميعاً وخرجوا لتدخل الممرضة برفقة مي مي ضاحكة ومستمتعة بما حصلت عليه من حلوى، جلست أمام الطبيب الباسم يسألها بنبرة حانية، فهي في عمر أصغر أحفاده: إنبسطي مع عبلة برا ؟
نظرت إليه مستغربة: عبلة مين ؟
اتسعت إبتسامته: بقى أخدتي كل الحلويات اللي معاها وما تعرفيش اسمها ؟
هزت كتفيها بلا مبالاة: هي ما قالتش، وميس حنان بتقولنا إنه مالناش دعوة بحد .. لو حد عايز يقولنا حاجه نسمعله لو مش حابب نسيبه براحته
 اعتدل في جلسته فقد سهلت عليه أغلب الطريق، سألها مستفهماً: مين ميس حنان دي ؟
برقت عينيها وابتسمت فرحة: دي مُدرسة الدين اللي بتديني .. وصاحبة حياه مرات حمزه بردو
نزع زوج العيون الإضافية التي توضح الرؤية أمامه وشرع في تنظيفها مدعياً عدم الإنتباه بينما يترقب ردود أفعالها من طرف عينيه: وبتحبي ميس حنان على كدا بقى ولا إيه ؟
هزت رأسها بقوة: أيوه، بأحبها أووي .. بتلعب معايا في الفسحة وبتجبلي حاجات حلوة كتير .. كمان بتحضني لما بأعيط  وبتاخدلي حقي من اللي بيضايقني
ثبت نظارته: طب وهي عندها أولاد ؟
شردت تحاول التذكر ثم أجابت يائسة: لا .. أنا ما شوفتش معاها حد ولا هي قالت
اقترح: إيه رأيك لو ميس حنان دي بقت ماما .. هتتبسطي ولا تزعلي ؟
أطرقت رأسها تفكر ثم أجابت بتردد: أنا بأحب ماما سمية بس .. بس لو ميس حنان كانت ماما أنا مش هأزعل وهأبقى مبسوطة
أضافت كأنها شعرت أنها غادرة: بس بردو هأحب ماما سمية أووي
أومأ الطبيب برأسه يطمأنها، ضغط على زر بجوار يده الموضوعة على المكتب فلبت الممرضة نداءه، أمرها بحزم: خلي الجماعة يدخلوا
أضاف باسماً: وخدي مي مي وجيبلها حاجات حلوة على حسابي .. هدية مني ليها
انصرفت الصغيرة سعيدة بحصيلتها لهذا اليوم غير عابئة بجو التوتر المحيط والذي تسببت فيه، جلس الجميع أمام الطبيب في حالة من الترقب ليس لها مثيل، بعد دقيقة بدأ حديثاً جدياً: الواضح إن البنت متعلقة بيها جداً وما عندهاش مانع أنها تقبلها كأم ليها ..
أحست سمية بخنجر الغدر يندس بين طيات قلبها؛ للحظة الأخيرة كانت تقنع نفسها أن مي مي لن تقبل بأم غيرها لكن خاب أملها، سأله أحمد: يعني حضرتك شايف نقولها أمتى الحقيقة ؟
طرق بقلمه فوق سطح المكتب: لو حابين تقولولها دلوقتي مافيش مانع
هتفت سمية بعصبية: بسرعة كدا ؟؟ .. مش هتتأذى كدا ؟؟
وضع حمزه يده على مرفقها: الأحسن أننا نحسم الموضوع، ف الأخر كدا كدا هتعرف
أعاد الطبيب: زي ما قولت لحضرتك إنه هي عندها استعداد تام إنها تقبلها فأكيد مش هيأذيها دا ف حاجه
استفسر حمزه: طب ومين أحسن شخص يقولها ؟
مال الطبيب إلى الأمام في كرسيه وعقد أصابع كفيه: الأفضل تكون مدام سمية هي اللي تقول ودا طبعاً ف وجود الأستاذة حنان ..
هبت سمية واقفة بغضب: لا كدا كتير، أنتوا مش ملاحظين أنكوا بتضغطوا عليَّا بزيادة ؟؟
نهض أحمد يحاول إمتصاص غضبها حتى استكانت وعادت للجلوس فأكمل الطبيب حديثه موضحاً الحالة بشكل أكثر شفافية: لما سألت مي مي إذا كانت ممكن تقبل حنان أم ليها قبلت وبعدين بدأت تحاول تثبت إنها بردو بتحبك، كأنها بالظبط متخيلة الحالة اللي حضرتك فيها دلوقتي .. مش عايزة تزعلك منها وف نفس الوقت مش قادرة ترفض الفكرة اللي قدمتهالها .. عشان كدا إنتي أنسب واحدة تقولها لأن دا هيثبتلها أنك مش هتضايقي منها لو قبلت بالوضع الجديد .. وهيديها الأمن واستقرار أكبر
أضاف ضاغطاً على وترها الحساس: وأعتقد اللي يهم حضرتك بشكل كبير أنه ما يحصلش توتر ف أعصابها ولا إنها تبقى محتارة كأنها واقفة بين نارين وهي لسه ف العمر دا
رأى الحزن والحيرة على وجه زوجته فشكر الطبيب وودعه على وعد بإطلاعه على ما يستجد على الوضع.
***
الإنتظار يجعلك تتقلب على النار كقطعة لحم تتلظى فوق النار أثناء الشواء، محققاً المثل القائل "وقوع البلاء ولا إنتظاره".
كانت تروح وتجئ في توتر، حياه ومعها الجدة تنظران لها بلا حول ولا قوة، فكيف ستطلبان منها الهدوء وهما على وشك اللحاق بها من فرط عصبية الترقب.
نهضت الجدة مستغفرة: أنا هأدخل أقرا قرآن يهون علينا اللي إحنا فيه دا
بعد فترة استدارت لها حنان متسائلة: هو حمزه لسه ما اتصلش ؟
هزت رأسها نافية: لسه
أشارت إلى هاتفها الموضوع على الطاولة: طب ما تشوفيهم اتأخروا ليه !
رفضت بهدوء: هو قال لما يخلصوا هيتصل ويقولنا، وبعدين إنتي عارفه الموضوع مش بسيط ولا سهل .. دي حياتها كلها هتتشقلب ..
أومأت متنهدة: أيوه، ربنا يستر
- إن شاء الله
مرت نصف ساعة أخرى قبل أن يحضر حمزه ليخبرهم بما حدث، بكت حنان بحرقة لا تدري من سعادتها  لدنو اقترانها بابنتها إلى غير رجعة هذه المرة أم حزناً ولوعة لسنين الفراق الطوال؟
الجدة متوجسة: طيب ومامتك هتقولها فعلاً ؟؟
أخفض رأسه بلا حول: والدي روح معاها وكان بيحاول يقنعها، هيفضل وراها لحد ما تلين، هما يومين تلاته بالكتير إن شاء الله
صاحت حنان بشراسة ودموعها لم تجف بعد: هي فاكرة نفسها إيه ؟؟ .. دي بنتي أنا، يعني ممكن بكل سهولة أخدها بالبوليس وبالقانون بس أنا اللي مش حابه أعمل مشاكل
هب واقفاً وقال بهدوء: بالعكس إنتي لو عملتي كدا يبقى أكبر غلط ف حياتك، تفتكري بنتك هيبقى إحساسها إيه لم تتسحب فجأة من البيت اللي بقالها سنين عايشه فيه .. لا وبالبوليس كمان ! .. هتحبك وقتها ؟؟؟
أمسكت حياه بساعدها وعاونتها على الجلوس: إهدي يا حنان، ما تضيعيش كل حاجه ف لحظة غضب، إنتي صبرتي حوالي ست سنين مش قادرة تزودي عليهم كمان يومين؟
أخفت وجهها بين كفيها: يا عالم حرام، حسوا بيا !، دي بنتي .. نفسي أخدها ف حضني وهي بنتي مش تلميذتي ..
بكت الجدة على مشهد حفيدتها، لم ترها ضعيفة إلى تلك الدرجة منذ اختفاء ميّ، نظرت حياه إلى حمزه بيأس تحاول الإستعانه به لكن ليس بيده شئ.
***
توقف صوت دقات الساعة المعلقة على الجدار عن الوصول إلى مسامعها، بهت الضوء كأنه يأتي من مكان قصي ليس من المصباح الواقع فوق رأسها بعدة سنتيمترات، نظرت إلى كفها وقد علقت به كتل الشعر المتساقطة بين أصابعها نتيجة تخللها لخصلاته.
بكت وانتحبت، اختفت فجأة رباطة جأشها .. يقينها .. كذلك حمدها، فلم يكتفِ مرضها بالإضافة لعلاجه الكيميائي بالعطب الذي حدث في نفسيتها وتذبذب حياتها بل أثر على أجمل ما فيها .. جدائلها الحريرية.
أرادت الإنعزال فعرجت إلى حيث صندوق الكهرباء الخاص بالشقة، قطعت التيار عن سائر الشقة كأنها تخفي شخصها بين طيات الظلام وحنايا العتمة.
وقع إختيارها على أشد الغرف إظلاماً وركعت بها تفض ما بداخلها من بكاء تحاملت تخفيه الأيام الماضية، عاد اليأس يحتل خلايا عقلها حتى أدخل فكرة لا تمت إلى الإيمان بصلة ! .. إنه الكفر عندما يطرق باب قلب نسى أن في ذكر الله يطمئن القلب والوجدان .. يعقبهم العقل.
عادت تتحس طريقها إلى الحمام، أخرجت علبة الدواء الذي وصفه لها الطبيب ونظرت إليه حانقة جاحدة حدثته نفسها الأمارة بالسوء داخل عقلها: أنت من يتسبب في عذابي، تقتلني رويداً رويداً .. تبدأ بوأد مفاتني .. لتتسبب في إحراد زوجي عني ثم تأتيني بالضربة القاضية وتُجهِز عليَّ .. لتكون تلك النهاية، لن تستمتع برؤية عذابي.
أمسكت كأس الماء الموضع على طرف الحوض حيث تستخدمه للمضمضة عقب غسيل الأسنان، أفرغت الدواء في كفها الصغير المتورم في بعض أجزاءه نتيجة العلاج.
أدنت الحبوب من فمها لكن فجأة تعالى صوت رنين هاتفها المحمول، نظرت لتجد هاتفها على الطرف الأخر من الحوض .. متى جاء إلى هنا ؟ .. نظرت حولها في يأس، لقد تناثرت الحبوب على أرضية الحمام.
رجع نظرها إلى الهاتف وبعد تفكير قررت رؤية ممن جاءت الرسالة؛ حتى إذا كانت من فادي تطمأنه فلا يقلق وينتبه إلى عمله .. فتحتها لتجد نصها كالآتي:
"مش عارفة ليه .. بس جيتي على بالي فجأة .. افتكرت أول يوم ليكي في العيادة وعدم رضاكي عشان كدا اقري الدعاء دا يا بنتي ربنا يصلح أحوالك .. اللهم اغفر لي وارحمني والحقني بالرفيق الأعلى .. لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله"
نظرت إلى اسم الراسل لتجده "ماما سحر"، إنها السيدة التي أقعدها المرض، تذكرت حين أعطتها رقم هاتفها في حال احتاجت شئ، أعادت قراءة الرسالة عدة مرات والدموع طفر من عيونها.
اتجهت إلى الغرفة وجلست تجمع شتات بالها، وبعدما هدأ حالها إلى درجة تجعل صوتها يخرج واضحاً اتصلت بمرسل الرسالة، أجابها صوت لم تكن تعرفه.
- السلام عليكم .. مدام سحر معايا؟
- لا أنا الممرضة، أي خدمة ؟
- ممكن أكلمها ؟
- مع الأسف لا، هي مش هتقدر تتكلم و ..
سمعت همهمات على الطرف الأخر أعقبها تنهد الممرضة وقولها: ثواني هأديهالك بس ياريت ما تطوليش معاها عشان ما تجهدش نفسها زيادة
أومأت كأنها ستراها عبر الهاتف، سمعت صوت ضعيف يكاد يُسمع: آلو .. نجلاء ..
- ماما سحر ؟
- إزيك يا بنتي؟
- إنتي إيه اللي خلاكي تبعتيلي الرسالة دي ؟ .. وبعتيها إزاي وإنتي مش قادرة تتكلمي حتى !
- الممرضة ربنا يكرمها هي اللي كتبتها وأنا ملتها ..
أضافت بعد هنية من الصمت: جيتي ف بالي فجأة وقلبي كالني عليكي بس ماكنتش قادرة أتكلم فبعتلك الرسالة دي
- بس .. بس إشمعنه الدعاء دا بالذات ؟؟
- دا دعاء كنت بأقوله دايماً، بأخاف أنه المرض والشيطان يوصلوني لليأس من رحمة ربنا وإني أعمل حاجه أندم عليها بس الحمدلله
- إنتي عارفه أنا كنت هأعمل إيه لما جاتلي رسالتك ؟؟ ...
ساد الصمت لحظات عادت بعده نجلاء: أنا كنت ..
قاطعتها بحزم وإن كان ضعيفاً لضعفها: مش عايزه أعرف، دي حاجه بينك وبين نفسك وربك .. ربنا يصلح أحوالنا جميعاً يا بنتي .. مهما كان اللي كنتي هتعمليه .. إنتي خلاص ما عملتهوش يبقى تقفلي عليه وأنسيه كأنه ماكانش .. قومي أتوضي وصلي .. استغفري ربنا واطلبي منه العفو .. بلاش تضيعي ثواب الإبتلاء عشان لحظة ضعف !، صدقيني وكوني على يقين .. إنه ربنا هيعوضك بأحسن من كدا واللي ينسيكي كل اللي حصل
وبعد سلامات معتادة أعقبت ذلك الحديث نتيجة إصرار الممرضة أن هذا يكفي بل ويفيض، نهضت عملاً بنصيحة صديقتها المريضة، توضأت ووقفت بين يدي الله تطلب العفو والسماح على ما كانت على وشك إرتكابه .. راجية أن يمدها بالصبر والجلد.
***
مضى يومان حتى حان موعد الحقيقة ووضع الأمور في مناصبها، جلست سمية على يمين الأريكة التي تحتلها حنان وقد كاد فؤادها يوشك على التوقف من التوتر، أتت مي مي بإبتسامتها السعيدة وأجلستها سمية على طرف المنضدة أمامها وتناولت يديها بين كفيها.
نظرت سمية إلى حنان تتمنى أن تطلب منها التوقف وعدم إخبار ميّ الحقيقة لكن هيهات فقد سبق السيف العذل وأتخذت حنان قرارها.
حملقت سمية في الصغيرة وأخذت نفساً عميقاً قبل أن تبدأ: إيه رأيك يا مي مي ف ميس حنان؟ .. بتحبيها ؟
ألقت نظرها على حنان وأتسعت إبتسامتها: أيوه بأحبها أووي
بادلتها حنان البسمة فيما عضت سمية على شفتيها ولكنها أكملت: بتحبيها لدرجة إنك ممكن تروحي تعيشي معاها ؟
أطرقت ميّ لحظات تُفكر حتى اهتدت إلى قول: أيوه .. هي بتحكي حواديت حلوة أوي .. هتحكيلي حدوتة قبل ما أنام وهتلعب معايا كتير .. وهنروح المدرسة كل يوم سوا
قررت رمي قنبلتها مرة واحدة فقد استفزها موافقة ميّ على تركها بهذه البساطة: طب ولو قولتلك إن حنان تبقى مامتك الحقيقية وإنها عايزاكي تروحي تعيشي معاها هتقولي إيه ؟
بدلت نظراتها بينهما في صمت، لم يستوعب عقلها الصغير ما قيل لها، تدخلت حنان باسمة بقلق وريبة، ملست على غدائر صغيرتها: أنا كان عندي بنت أمورة أوووي، كان كل اللي يشوفها يحبها وما يبقاش عايز يسيبها .. لحد ما في يوم عيد ميلادها لما كان عندها أربع سنين روحنا نشتري حاجات لحفلتها .. وأنا بأدفع الحساب سَهتني ومشيت، دورت عليها ولفت عليها كتيررر .. بس بردو مالقتهاش ..
أكملت سمية الحكاية: وكنت أنا ماشيه ومعايا بابا أحمد، لاقينا بنت صغيرة أمورة أوي قاعدة ع الرصيف بتعيط .. ما كانش بعيد أوي عن المكان اللي كانت فيه ميس حنان .. بس عقبال ما كانت هي وصلتله والبوليس كمان .. كنا إحنا خدناها معانا، غلطتنا إننا حبناها فمارضيناش نوديها للبوليس .. خوفنا يعاملوها وحش أو مايكونش ليها أهل فتتعذب .. فقررنا نربيها ونراعيها .. بس مامتها أخيراً عرفت مكانها وعايزاها ترجع معاها .. إيه رأيك ؟
تعلقت نظرات ميّ وحنان ببعضهما، واحدة لا تظهر أي تعبير والأخر تتوسل راجية، تمتمت أخيراً: يعني إنتي ماما الحقيقية ؟
أرتعشت شفتاها وكستها دمعاتها فأكتفت بإيماءة من رأسها، ألقت ميّ جسدها الضئيل بين أحضان أمها وطوقت عنقها بذراعيها حتى كادت تفتك بأنفاسها.
لم تهتم حنان بأن تأخذ حاجتها من الهواء يكفيها وجود ابنتها بين ذراعيها بعد طول الإبتعاد، هتفت ميّ لتزيد من دموع أمها بالإضافة إلى فرحتها: ماما
بكت سمية على ما رأته عيناها، قبل الآن بلحظات كانت ما تزال مصرة على عدم معرفة ميّ للحقيقة ولكن منطق زوجها بأن الحق سيظهر في يوم ما سواء بإرادتها أو برفض منها، إنما وقتها ستكون هي الجانية وسيؤدي حنق حنان عليها أن تمنع عنها ميّ وحتى مجرد رؤيتها .. وهكذا حتى رضخت ووافقت على تلك الجلسة، وعندما رأت إنفعالات الأم وابنتها رق قلبها وأعطى قلبها الموافقة التامة لما قالته.
استدارت حياه تخفي تأثرها ودمعاتها بين ثنايا قميص زوجها، لقد أتفقت مع زوجها وحميها على الوقوف بعيداً ليتابعوا ما يحدث ويتدخلوا إن لزم الأمر فما تزال سمية غير مقتنعة وقد تقول ما ليس عليها قوله بسبب حبها وتعلقها بميّ، لكن الوضع أتخذ منحنى يُدمي القلوب ويُلين أقسى النفوس.
ردد لسان حال أحمد: الحمد لك يا الله كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
***
سار في الطريق المهجور حتى من كلب قد يكون مسعوراً، لا يكسر ظلمة الليل فيه إلا بضعة أعمدة إنارة على مسافات متباعدة وضوء القمر الذي فجأة أختفى خلف السحب معلناً تمرده ورفضه لإنارة الطريق أمام هذا الملعون.
واضعاً يديه في جيوب سترته وقد أخفى رأسه ووجهه أسفل قلنسوة سترته، يسرع خطاه خوفاً من أن يُقبض عليه بالجرم المشهود.
وقف في فناء مبنى جديد دلالة على أن المنطقة قيد الإنشاء وستعج بالناس في القريب العاجل أو البعيد .. أجرى بصره ذهاباً وإياباً على المحيط حتى تأكد له عدم وجود مخلوق وأن عيناً من العيون لم تلمحه .. فصعد الدرجات درجتين درجتين بنشوة قاتل يمشي في جنازة المقتول.
طرق الباب ثلاثة طرقات بنغمة معينة وبدقيقة محسوبة بين الطرقة والتي تليها حتى فُتح الباب وسمح له الفاتح بالولوج.
تبعه إلى غرفة في أقصى الشقة يغمرها الظلام كالعادة إلا من مصباح يصب الضوء عليه دون غيره وأحياناً على الذراع الأيمن لرئيسه.
حدثه فواز ببرود: عايز تشوفنا ليه يا شادي ؟
أسقط شادي قلنسوته وحك رأسه تائهاً: هو مش حضراتكوا عارفين اللي حصل بردو ؟؟
بنفس النبرة: وإيه اللي حصل ؟
- بوليس الأداب عمل كابسه ع الفندق الجديد اللي روحناه، والبت فتون هربت .. والباقيين والجداد اتقبض عليهم
- وعايز مننا إيه دلوقتي ؟
- عايز مساعدتكوا عشان أرجع أقف على رجليا تاني
نهض فواز من مقعده وأتجه إليه بتؤده، دار حوله ووقف خلفه تماماً، همس بصوت قوي مخيف: أنت بقيت كارت محروق يا شادي .. خطر ولازم نخلص منه
أرتعش جسده خوفاً من مدلول كلامه وتأتأ في الحديث دون أن تخرج منه كلمة واحدة ذات معنى.
لم يلحظ ضغط رئيسه الجالس في الظلام على زر ما أعقبه دخول رجلين من لاعبي كمال الأجسام .. أقتربا منه وأمسكا بتلابيبه.
أمرهم فواز بقسوة: خدوه من هنا وخلصوا عليه ف أي حته وأرموه لكلاب السكك تنهش ف لحمه
أطاعه الرجلين في صمت وصحباه إلى مكان لا يعلم عنه أحد ولا يُسمع فيه صرخة وإن دوت أسبوعاً متواصلاً .. كاتمين أنفاسه مانعين عنه حتى حق الصراخ.
إن الدنيا دوارة .. وكما تُدين تُدان، لقد كتم صراخات العديد من الفتيات المتوسلات منه الرحمة لكنه صم أذنه .. تسبب في قتل بعضهن وإنتحار بعضهن دون أن يرف له جفن .. هناك قاضِ اسمه العدل .. لا يرد دعوة المظلوم إذا ظُلم ولا شكوة المقهور لكنه يُمهل الفرصة تلو الأخرى فإذا تاب وأصلح فقد أُنقذ .. وإذا استمر وطلح  فلا مفر من إقامة الحد عليه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق