الفصل السادس عشر


وقفت بجوار طاولة الطعام تفرغ بقاياه في طبق واحد وترص الصحون الفارغة فوق بعضها ليسهل عليها نقلها إلى المطبخ، عقلها مازال منشغلاً في موضوع القلادة وابنتها الضائعة في حين يديها تقوم بالعمل أوتومتيكياً.
إلتفتت إليها جدتها متسائلة بعد أن أزاحت عيونها عن شاشة التلفاز المضيئة أمامها في عرض لأحد البرامج التي تداوم على متابعتها: يا بنتي الباب بيضرب بقاله ساعة مش ناوية تفتحي ولا إيه ؟
سألتها متعجبة: هو بيرن أصلاً ؟
حدقت بها جدتها: سلامة سمعك يا حنان .. روحي افتحي الباب ربنا يهديكي
تنهدت حنان بقوة وذهبت تفتح الباب لتجد أمامها منظر لم تكن تتخيل يوماً أن ترى فتاة به، ذلك جعلها تفتح فمها على إتساعه غير مدركة لأسئلة جدتها عن هوية الطارق.
* * *
تقدمت حياه تحمل كؤوس العصير .. تناولها  لوالد زوجها أولاً يليه حمزه، تناولوه منها بلا روح كأنهم مسيرين، سألتهم قلقة: الدكتور قال إيه ؟
أجابها أحمد: إنهيار عصبي بسبب الضغط النفسي اللي هي فيه .. أداها حقنة مهدئة ونامت
تنهدت بشبه راحة، سألها حموها: مي مي فين؟
- نعست من كتر العياط
زفر أحمد: طب الحمدلله .. عشان ما تعملش دوشة وتخلي سمية تنام أحسن
انسحب حمزه بصمت ودلف إلى غرفته، تبعته نظرات حياه المشفقة وهي تفكر في مشاعره الآن حيث والدته وشقيقته على فراش المرض، ترددت أتنهض وتتبعه أم تظل حيث هي تتابعه من بعيد وتتركه يفكربمفرده.
أخرجها من حيرتها حموها قائلاً بتشجيع وإبتسامة حنونة: روحي وراه .. ما تسبهوش لوحده
أضاف رافعاً كأسه: وتسلم إيدك ع العصير .. هأشربه وادخل ارتاح أنا كمان
أومأت باسمة واتجهت إلى الغرفة حيث يجلس حمزه ضاغطاً رأسه بين كفيه ومرفقيه يستندان على ركبتيه، أضاءت النور وجلست إلى جواره على الأريكة في صمت لا تدري ماذا تقول أو كيف تواسيه وتخفف عنه.
- أنا مقدرة خوفك على أختك بس لعله خير .. أكيد ربنا له حكمة ف مرضها
حك فروة رأسه بقسوة: مش قادر أتخيل إنها ممكن تموت وما أشوفهاش تاني .. مش قادر
دنت منه: كلنا هنموت ف يوم من الأيام .. ماحدش فينا مُخلد .. الفرق طريقة الموت .. فيه اللي بيموت ف حادثة عربية واللي بيموت محروق .. اللي بينتحر .. اللي بيتثبت وهو راجع بيته بعد ما قبض مرتبه عشان بداية شهر جديد وهيسدد ديونه وبطعنة سكين ينهوا حياته .. اللي بيموت بمرض واللي بينام وما يجيش عليه نهار وهو حي ..
تنهدت قبل أن تضيف بأسى: واللي بيموت ف أقذر مكان وهو بيعمل أكبر الكبائر عشان ماقدرش يقاوم وفقد الثقة في النجاة
نظر إليه يتأمل كلماتها فيما أكملت باسمة بهدوء: وأنا مش بعيد أموت قبلها كمان حتى لو ماعنديش كانسر ..
توقفت عن الحديث فقد جذبها حمزه يحتويها بين ضلوعها ويخفيها بين طياته .. مبخراً كل الحديث التالي الذي قضى على بقايا أشلاء قلبه المكلوم، دفن وجهه في عنقها يشتم رائحتها المارة عبر النسيج الخاص بالحجاب.
- ما تقوليش كدا .. لا إنتي ولا هي هيحصلكوا حاجه وأنا موجود
أبعدته عنها لكنها ندمت على ذلك عندما حرمت من دفء حضنه: كل واحد مكتوبله الساعة اللي هيموت فيها بس ف النهاية كلنا هنموت .. الموت مش وحش أوي كدا .. بالعكس دا يمكن يكون راحه مقابل عذاب كتير ف الحياة
تنهد بقوة مخرجاً كل ما يعتمر بداخله: لازم أشوف نجلاء وأعرف حالتها إيه بالظبط وتقبلها للوضع دا إزاي
تسرعت حياه قائلة بإبتسامة: ما تخافش عليها فادي معاها ومش سايبها .. ربنا يخليهم لبعض، وبدأت تتقبل مرضها، بدل ما كانت ناقمة على اللي هي فيه ومش راضيه عنه
ضيق عينيه ونظر إليه بترقب: وإنتي عرفتي منين كل دا ؟
أجفلت حياه، ابتلعت ريقها بصعوبة مقررة أن تخبره بالحقيقة: أصل .. أصل أنا كلمت نجلاء إمبارح أطمن عليها وحكتلي
انتفض واقفاً ونظراته النارية تصعقها: وإنتي كنتي عارفه بمرضها ؟؟
اخترقت أذنيها نبرته الغاضبة وطلته عليها من فوق زادت ذعرها وانكماشها، همهمت: أيوه
هدر: ومن إمتى وإنتي عارفه يا هانم ؟!
نظرت أرضاً: من بعد ما عرفت على طول .. كنت أول حد تقوله
هم أن يصفعها لكن إخفاءها لوجهها خلف ذراعيها المتعامدين جعله يقبض على يده بشدة ويغادر الغرفة صافعاً الباب خلفه.
سمعت إغلاق باب الشقة الرئيسي فنهضت تنظر عبر النافذة، وجدته يصعد إلى سيارته وينطلق بها بأعلى سرعة مندفعاً بين شوارع المحروسة الصاخبة دون أن يحدد وجهته.
انهارت باكية تتشبث بالستائر، لم تدم سعادتها سوى فترة وجيزة حتى عادت التعاسة تحتل حياتها من جديد، إنها كالضيف ثقيل الظل الذي يفرض وجوده على صاحب الدار.
***
ضمتها حياه بقوة وشوق، لم تصدق أذنيها عندما حادثتها حنان تخبر بالضيفة التي بإنتظارها في منزلها، حاولت الإتصال بحمزه لكنه لم يجب ثم أغلق هاتفه نهائياً، وجدت بقية من في المنزل يغطون في سبات عميق فاكتفت بكتابة ورقة وضعتها على الطاولة بجوار باب الشقة تخبرهم فيها أنها ذهبت لحنان ولن تتأخر.
ضحكت حنان: أنا هأروح أعملكوا كوبيتين عصير عقبال ما تخلصوا اللقاء العاطفي دا
تركتهم حنان وانسحبت بينما جلستا متجاورتين، أمسكت حياه بيدها وهي تسألها: عرفتي تهربي إزاي ؟؟
تنهدت فتون: البوليس هجم على الفندق اللي كنا فيه أخر مرة .. مش عارفه مين اللي بلغ أو عرفوا إزاي لأنه دي كانت أول مرة نروح هناك وأكيد المكان مش مشبوه .. قدرت أهرب وفضلت أجري لحد ما حسيت إني بقيت ف أمان .. ولحسن حظي كنت بأخلي الورقة اللي ادتيهالي معايا على طول .. عقبال بقى ما قدرت أوصل لهنا مشي كانت عدت ساعات كتير
- طيب و.. شادي؟ قبضوا عليه؟؟
هزت كتفيها: مش عارفه، أنا كنت مشغولة إني أهرب لكن ما أعرفش هو وكريمة والكام بنت التانين  اتمسكوا ولا لا
تعجبت: كريمة مين ؟؟
ضحكت ببؤس: دي البضاعة الجديدة، بعد ما هربتي إنتي ونيفين .. شادي قدر يعلقها زينا
تنهدت بحسرة، حضرت حنان ضاحكة: ومعاك إتنين عصير وصلحه
شاركتها الفتاتين الضحك، جلسن سوياً يتسامرن قليلاً قبل أن تسأل حياه: وناوية تعملي إيه دلوقتي ؟
نظرت فتون بعيداً: مش عارفة ..
طمأنتها حنان: إنتي خليكي هنا معايا لحد ما تعرفي عايزه تعملي إيه ف حياتك
هزت فتون رأسها بقوة: لا لا، أنا بس جيت عشان أطمن على حياه وأشوفها وبعد كدا أمشي
أمرتها حنان بنبرة لا تقبل المناقشة: خلاص أنا قررت وإنتي مالكيش خروج من هنا
تنهدت فتون: بس ..
ربتت حنان على كتفها: خلاص بقى إنتي هتنوريني هنا يا فوفو
أضافت: إنتي صحيح دراستك إيه؟
أجابتها بخجل: كنت معهد تمريض ..
حنان: ومالك بتقوليها وإنتي مكسوفه كدا ؟ .. دا إنتي حتى ملاك رحمة
غمزتها حياه: أيوه بقى ملاك بس قمر
ضحكت فتون، دامت جلستهم سوياً لمدة ليست بالقصيرة حتى تثاءبت فتون ناعـسة فما مرت به ليس بالهين، رافقتها حنان إلى الغرفة وعادت لتجد حياه تجمع أغراضها لتذهب.
اعتذرت لها حياه: معلش يا حنان أدتها عنوانك .. لأني ماكنتش عارفه هأقعد فين ولا بيتي ف أنهي حته .. كنت حاسه إن هيجيلها الوقت وتهرب لأنه المكان دا مش مناسب ليها
ابتسمت حنان: بالعكس يا حبيبتي دا شئ يسعدني، كفايه إنك هتديني الفرصة إني أساعدها إنها تبني حياتها من جديد .. بيتي مفتوحلها ولأي حد عايز يمشي ف الطريق الصح
ضمتها حياه: ربنا يجزيكي خير
أبعدتها حنان وهي تنظر لها بقوة: بس إنتي فيكي حاجه مش طبيعية إنهارده
توترت حياه وهربت بنظرها بعيداً: لا أبداً، تلاقيه تأثير السفر بس
حركت سبابتها: لا، إنتي عينيك كان شكلها معيط لما جيتي .. بتخبي إيه عني يا حياه؟
تنهدت حياه بعمق وتجمعت الدموع بعيونها مرة أخرى، روت لصديقتها كل ما حدث علها تجد لديها المنفذ أو ما يثبت لها أنها لم تخطئ.
أنبتها حنان: إنتي اللي غلطانه
فغرت فهها: أنا ؟؟
ضحكت حنان لمظهرها: أيوه، أولاً عشان دا جوزك وما ينفعش تخبي عنه حاجه
تمتمت حياه بوجنتين حمراوتين: بس إنتي عارفه إنه جوازنا مش طبيعي
غمزتها حنان: ما إنتي لسه ما سمعتيش ثانياً
أضافت بجدية مصطنعة: طالما مش هتقدري تخبي إنك مخبية يبقى ما تخبيش أساساً !
ضحكت حياه على كلماتها وعلى جديتها المفرطة، شاركتها حنان الضحك قليلاً ثم سألتها: وأخبار مي مي إيه ؟ زمانها مضايقه عشان مامتها أوي
تنهدت حياه: لو تشوفيه فضلت تعيط قد إيه لحد ما نامت م التعب
تمزق قلب حنان من مجرد تخيلها لمنظر الطلفة الباكي: بس صحيح.. مش غريبة إنه واحدة في سن مدام سمية تجيب واحدة صغيرة زي مي مي ؟
هزت كتفيها: لا عادي، بس هي أصلاً ..
قطعت حديثها فجأة مدركة أن ما كانت ستنطقه يتعدى نطاق صلاحيتها، حثتها حنان على المتابعة لكنها رفضت قائلة باعتذار: مش هأقدر أقولك سامحيني، ماما سمية أمنتني ع الكلام دا أول يوم كنت مع مي مي فيه وما قالتهوليش غير عشان أقدر أتعامل مع مي مي بطريقة صح
أومأت حنان بيأس لكن هناك .. داخل عقلها كما قلبها إزداد الشك، انصرفت حياه وتركتها لتكهناتها.
***
تسلق سور يحيط بأحد البنايات المهجورة ثم هبط في الجهة الأخرى واقعاً على قدميه كأحد المحترفين، ركض بعد ذلك مسرعاً حتى صعد إلى طابق متوسط ليس بالأخير فيسهل اقتناصه وليس بالمنخفض يسهل على الحيوانات والحشرات الإنقضاض عليه، فكلما ارتفع الطابق كلما قلت الفئران والحشرات كما تتاح له مراقبة ما حوله إلى حد ما.
جمع بقايا أخشاب متكسرة هنا وهناك أشعلها عن طريق حك خشبتين معاً كما يفعل الكشافة فتلك لم تكن المرة الأولى له في العيش بهذة الوسيلة.
انكمش حول النار، ينفث أنفاسه بين يديها أملاً في إنبعاث الدفء عبر أوصاله لكن بمجرد الإنغماس في أفكاره الشيطانية التي تدور برأسه نسي البرد والصقيع .. وذلك الخراب الماكث فيه.
- وراكوا وراكوا .. هأخد كل واحد كان السبب في اللي أنا فيه دا وهيدوق اللي عمره ما داقه .. الصبر حلو.
***
عاد حمزه متأخراً فلم يعلم بخروج حياه وعودتها، أتجه إلى الغرفة ولم يجدها، بحث عنها حتى وجدها تتطعم مي مي في المطبخ كان سيغادر بهدوء لكن مي مي لمحته وابتسمت له ببراءة: أبيه حمزه
ادعى أنه أتى ليروي عطشه، فتح الثلاجة وأخرج دورق مياه كما سحب كأس يملؤه، تابعته حياه وسألته: أنا اتصلت بيك بس أنت ما ردتش
هز كتفيه بلا مبالاة: ما سمعتش
عادت تسأله: بس لما جيت أتصل تاني أداني مغلق
بنفس النبرة: يمكن فصل شحن
انصرف وتركها متجهاً إلى الغرفة، جلست مع مي مي حتى غطت في النوم من جديد قبل أن تتوجه إلى غرفتها لترتاح هي الأخرى فقد كان يوماً طويلاً وشاقاً.
دخلت إلى الغرفة وسمعت صوت صنبور المياه في الحمام فعلمت أن حمزه يأخذ حماماً، تنهدت وبدلت ملابسها وقبل أن تصعد إلى فراشها لمحت هاتفه على طاولة الزينة، ترددت لكنها حزمت أمرها .. تناولت الهاتف وألقت نظرة عليه لتكتشف أن شحنه يحتوي على ثلاث شرطات .. إذاً لم يكن قد أنتهى شحنه كما برر.
أعادته مكانه وصعدت إلى السرير تبكي بحرقة، لقد أخطأت وتلصصت على هاتفه وهذه هي النتيجة عوضاً عن النوم براحة ستنام باكية حزينة، لو تثق به قليلاً تلك الثقة العمياء التي أعتادتها قبلاً.
خرج بعد دقيقة من الحمام، ألقى على ظهرها الموجه ناحيته نظرة طويلة قبل أن ينضم إليها مطفئاً الضوء لتعم الظلمة جميع أرجاء الغرفة وتكتم هي شهقاتها بين ثنايا أنسجة الوسادة.
***
استيقظت متأخرة بعد أن أضناها النوم المتقطع، نظرت إلى جوارها وابتسمت بسخرية، لقد رحل حتى دون أن يودعها كأنها ليست له بزوجة، إلى متى ستظل معاملته لها بتلك الطريقة وهذا الجفاء، إنها مقاطعها منذ عشرة أيام.
نهضت واغتسلت قبل أن تذهب تطمئن عن حماتها وتعطيها دواءها، كادت تصطدم بأحمد أثناء خروجه من الغرفة، أوشكت على الحديث لكنه أشار إليه بالهدوء والصمت معللاً بعد إحكامه غلق الباب: لسه رايحه في النوم دلوقتي
- بس دواها
ربت على كتفها بحنان: ما تقلقيش، أدتهولها
ثم أضاف متخابثاً: وإنتي كمان شكلك عايزة تنامي
تهربت من نظراته منسحبة: هأروح ابدأ أجهز الغدا .. عن إذنك
تنهد لكنه تركها، وضعها مع حمزه غير مستقر منذ عادا من تلك السفرة، لم يرد التدخل في حياتهما ظناً منه أنهما سارا أكثر تعقلاً وتحملاً للمسئولية حتى يحلان سوياً مشاكلهما الزوجية لكن يبدو أنه أخطأ في ذلك.
***
مسحت على مكان دخول الحقنة بقطنة ثم كررت العملية بعد خروجها بسلاسة دون أن تسبب أي وجع للمريض، قامت بإلقاء الحقنة بعد الاستخدام في السلة المخصصة لها وهي تبتسم للمريض إبتسامتها الصافية: بالشفا يا حاج
أجابها الرجل الستيني: ما شاء الله عليكي يا بنتي إيدك بلسم، دخلت وخرجت من غير ما أحس
اتسعت إبتسامتها واكتفت بذلك كإجابة، رأت لمعان عيونه ونظراته المصوبة إلى نقطة ما خلفها تلاها بوصلات من المديح منقطع النظير، إلتفتت لترى مع من يتحدث ولمحت الطبيب يبتسم سعيداً برأي مريضه.
- بجد يا دكتور كان فينها من زمان !، أنا بقيت أخد الحقنة وأنا مطمن
ثم أضاف متذمراً: مش التانية اللي بتدي الحقنة ف لوح خشب !
ضحك الطبيب بدر: معلش أنت استحملت معانا كتير
نظر إلى فتون: وربنا رحمك وجزاك خير على صبرك كمان
رحل الرجل والرضا يعلو وجهه فمنذ عملت فتون ممرضة في عيادة الطبيب بدر وهو لا يتعرض لعواقب أخذه للحنقة وتابعتها من آلام تقض مضجعه.
وضع بدر يديه في معطفه الأبيض والسماعة الطبية تحيط عنقه: يظهر إنه إيدك خفيفة فعلاً الكل بيشكر فيكي، حتى الحاج رمضان اللي ما بيعجبوش العجب
هزت كتفيها ونظرت أرضاً بخجل: دا شغلي يا دكتور، المهم أكون عند حسن ظن حضرتك
أكملت: هأروح دلوقتي أجيب نادر من المدرسة، تأمرني بأي حاجه تانية قبل ما أمشي؟
هز رأسه واستدر لكنه قبل أن يغادرها: ابقي فكريني أشكر حنان على ترشيحها ليكي، بجد عملت فيا جميل مش هأنساه أبداً
شعرت بالسعادة حقاً، لقد ظنت أن حياتها أنتهت بعد ممارستها لأحد الكبائر وأن غضب الله سيحاوطها مغلقاً كل الأبواب حولها، لكن حنان وجدتها لم يتركاها تقع في قاع أفكارها السوداء بالعكس شجعوها وأعطوها الأمل، فما من أحد كامل ولا خالِ من العيوب، دائماً وأبداً ستبقى أبواب الرحمة والمغفرة مفتوحة أمام من طلب التوبة في أي وقت.
لحسن حظها أن الطبيب بدر كان يبحث عن ممرضة بدل التي كانت تعمل لديه لأنها قررت التقاعد مبكراً لكبر سنها وعدم قدرتها على تلبية احتياجاته كطبيب، رشحتها حنان لتلك الوظيفة مادحة فيها لا تقول عنها سوى قصائد المدح رغم عدم علمها سواء إجادة ذلك العمل أم لا، لكنها بكلامها ذاك شعرت بالتشجيع وأنه يجب عليها أن تثبت مهارتها ولا تسئ لماء وجه حنان .. من وثقت بها وساندتها.
عدلت من ملابسها بعد أن نزعت زي التمريض، تنهدت براحة فهي الآن لا ترتدي سوى ما هو محتشم، لقد كرهت نفسها وجسدها، لم تعد تتحمل أن يظهر منها إلا كفيها ووجهها بالإضافة إلى شعرها.
تناولت حقيبتها ملقية نظرة أخيرة على العيادة لتتأكد من أن كل شئ في محله وأنها تركت المكان على أكمل وجه، أطفأت الضوء وأغلقت الباب خلفها تاركة الطبيب يسبح بين أبحاثه ودراساته حتى عودتها مع ملاكه.
***
ضمت كفيها سوياً وهي تقف إلى جانب مكان حارس المدرسة في إنتظار خروج الطلاب، لقد طلب منها أحمد أن تذهب لإحضار مي مي فهو لا يشعر بأنه على ما يرام ليذهب كذلك حمزه لديه الكثير من الأعمال يتوجب عليه إنهاءها، جعلها تقبل وتنصاع لرغبته، وإن كانت نفسها تنفر من الخروج أو رؤية أحد.
دق الجرس أخيراً معلناً موعد الإنصرف، رغم عدم مرور عشر دقائق على وقوفها إلا أنها شعرت بأنهم عشر سنوات، خرجت مي مي وكفها يتشبث بكف حنان في سعادة.
ابتهجت حنان لمرأها: أخيراً يا وحشة شرفتيني برؤيتك الكريمة ؟!
رسمت إبتسامة باهتة على شفتيها: سامحيني، حقك عليا
تأملتها حنان للحظات صامتة تحاول معرفة ما أمرها، توصلت إلى قول: أنا هأوصلك إنتي ومي مي إنهارده عشان شكلك مش عاجبني
لم تعترض وسارت جوارها في صمت حتى توقفت حنان قائلة لمي مي: تحبي تاكلي آيس كريم ؟
أومأت مي مي بسعادة وانطلقت تحضر لنفسها بما أعطته لها حنان مثلجات بالطعم الذي تهواه، استغلت حنان الفرصة ووجهت حديثها إلى حياه بجدية: مالك زعلانه عليها كدا ؟؟
نظرت لها حياه بتعجب وعدم فهم: مين دي؟
أخرجت حنان الجريدة من حقيبتها وسلمتها إليها متمتمة: دي، اللي اسمها جميلة
شهقت حياه بفزع عندما قرأت خبر وفاة جميلة إثر سقوطها من شرفة أحد الفيلات المشبوهة فور إنقضاض الشرطة عليها خوفاً من القبض عليها منذ فترة ثم تلى هذا الخبر ما قصته عليهم فتون، ربط الصحفي بين الواقعتين وهروب الشخص نفسه "شادي" من كلتيهما.
همهمت: دا حصل إمتى دا؟
أشارت حنان إلى التاريخ المكتوب أعلى الجريدة: الخبر دا اتنشر يوم ما جات فتون، بس ما شوفتهوش غير دلوقتي صدفة .. ما إنتي عارفه مش بأحب الجرايد وبترفع الضغط عند تيته .. بس فيه مُدرسة معايا بتحب تقرأ الأخبار البايته حتى لو عدى عليها أسبوع ولما لمحت الخبر أخدت منها الجرنال
حوقلت حياه بأسف: ربنا يرحمها .. هي فتون عارفه ؟
- أمين .. كلمتها سألتها قالتلي أنه شادي مارضيش يقولها حصل إيه مع جميلة لما هربوا أول مرة وكانت لسه عارفه مني
ضاقت عينيها معقبة: ما دام ما تعرفيش الخبر دا، أومال إيه اللي عامل فيكي كدا ؟؟
اكتفت حياه بالتنهد قائلة: حمزه عرف إني كنت عارفه عن مرض نجلاء وما قولتلوش
عادت مي مي فانقطع الكلام لكن حنان بعقلها الراجح استشفت رد فعل حمزه فصمتت لا يمكنها التدخل ولن تستطيع مواستها .. فليس بيدها حيلة لذلك قررت لزوم الصمت حتى أوصلتهم إلى باب البناية واتجهت عائدة إلى منزلها بعد رفضها التام للصعود.
شردت في أفكارها وحياتها، إنها قلقة بشدة، فما فعلته لا تدري إن كان صواباً أم خطأ، سيجلب الشقاء أم السعادة والفرحة، ظلت تستغفر خلال طريق العودة علَّ الله يخفف عليها من وقع ما سيأتي أياً كان.
***
دلفت إلى المنزل وشرعت تحضر الطعام لمي مي حتى تتفرغ لمذاكرتها وحل واجباتها المدرسية، لم ترغب مي مي بأن يساعدها أحد لكنها طلبت أن تراجع إجابتها فور إنتهاءها منها، رضخت حياه لطلبها.
اطمأنت على سمية وأنها ليست بحاجه لشئ، لم تجد أحمد في المنزل، تعجبت لذلك فقد أرسلها لتحضر مي مي خصيصاً لأنه يشعر بالتعب.
جلست لا تدري ماذا تفعل، تريد الإلتهاء حتى لا تتخاطفها الأفكار، لمحت في أقصى الغرفة التي أمامها مكتبة ضخمة، قررت أن ترى ما بها وأن تستعير ما يشد إنتباهها.
إن غرفة مكتب أحمد تحتوي على مكتبة ضخمة، ليس الجزء الذي رأته من الخارج فقط، بل تحتل جدار أخر في حين يشغل المكتب الجدار الثالث وأريكة مريحة بجوار ضوء يبدو أنه مخصص للقراءة عند الجلوس عليها.
مرت بعينيها على الكتب لتجد كتب لا تنتمي لإهتماتها؛ سياسية وفلسفية كذلك لغوية، فقدت الأمل في العثور على كتاب من مجال تحبه، فجأة استوقفها كتاب عن الأحاديث النبوية وتفسيراتها، جذبته في سعادة واسترخت في الأريكة المجاورة للباب وغرقت في القراءة لا تشعر بما حولها، حيث أن أسلوب الكتاب نقلها إلى عالمه غير عابئ بعالمها.
***
حان موعد الجلسة التي صارت تذهب إليها برفقة زوجها، في إنتظار دورها جلست تتحدث مع فادي في شتى الأمور لكنها لمحت طيف أحد تعلمه.
لقد أختفى بريق عينيها الذي داومت على الحفاظ عليه مهما كان ألمها، لقد اشتد الإبتلاء عليها حتى ذبلت كزهرة اقتلعت من البستان وتركت في الهواء معرضة للذبول، لحظها أوقفت مرافقتها الكرسي المتحرك إلى جوار مقعدها.
سألت السيدة عن حالها ولما هي بائسة، فأجابتها بصوت أنهكه المرض: بقالي سنة ونص هنا بأتعالج وما شوفتش ولادي، كنت مستنية اتأكد إني خلاص شفيت الحمدلله بس رجع أقوى من الأول
- هما عايشين في اليمن مش كدا ؟
أومأت، فعادت تسألها: طب هما مش بيجوا يزوروكي ليه؟
- مشاغل الحياه يا بنتي وبعدين اللي بيجلهم على قد اللي بيروح، هيجوا يعملوا إيه هنا؟ يشوفوني وأنا بأتعذب وبأموت
ضمت كفيها بين يديها ونهرتها: أوعي تقولي كدا، دا إنتي اللي كنتي مصبراني ع اللي أنا فيه
ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيها لكنها لم تعقب، كان فادي منتبهاً للحوار لكنه لم يحاول إبداء ذلك حتى لا تشعر السيدة أنه متطفل.
دخلت نجلاء إلى جلستها عندما أتى دورها، جلس فادي يتجاذب أطراف الحديث مع السيدة حتى وصل إلى مبتغاه.
***
لم تشعر بفتح باب غرفة المكتب ولا مراقبة أحدهم لها، لقد كانت مأخوذة بما تقرأه وبكم المعلومات التي لم تكن تسمع عنها شيئاً، لقد كانت جاهلة بالمعنى الحرفي.
فجأة أعتمت الصفحات نتيجة للظل الساقط عليها، نظرت خلفها لتجد حمزه واقفاً بملامحه الجامدة، حدقت به في صمت كما فعل هو إلى أن قطع الصمت قائلاً بمزاح وإبتسامة مفاجأة: والله وطلعتي مثقفة كمان يا بنت عم فاروق
لولا الإبتسامة لظنت أنه يهزأ منها، لم ترد أن تسبب مشكلة لمجرد ظنون فهزت كتفيها ورفعت نظارة وهمية عن طرف أنفها: طول عمري مِثـئـفة
قهقه على مظهرها وكلامها: مِثـئـفة مرة واحدة ؟؟ .. طب قومي يا مِثـئـفة حضريلي الأكل عشان جعان
علت الدهشة وجهها، فمنذ غضبه منها كان يأكل بنفسه أو لا يأكل متحججاً بتناوله الطعام خارجاً، أومأت في صمت ونهضت بعد أن تركت الكتاب على الأريكة رغبة في العودة وتكملته.
استوقفها على الباب قائلاً بتحذير: واعملي حسابك أنك هتاكلي معايا !
- بس ...
هز رأسه رافضاً أي اعتراض، اقترب منها وتحسس خدها بظهر يده قائلاً بحنو: إنتي ما كالتيش حاجه من الصبح ولونك مخطوف من قلة الأكل .. كدا مش هينفع
اقشعر بدنها للمسته والحنان الطاغي في كلماته، تحول فجأة إلى لهجة غاضبة: كل دا ما عملتيش الأكل ولسه واقفة ! .. ستات أخر زمان والله
تركها وأتجه إلى غرفته محاولاً كتم ضحكاته لما رأه على وجهها من صدمة لتحوله المفاجئ بلا سبب، ضربت كفاً بكف: أقسم بالله الراجل دا أتجنن، أخر برج من دماغه عشش فيه الحمام وبقى غير قابل للاستخدام هههههههه
توجهت إلى المطبخ تسخن ما أعدته سابقاً، وضعته على طاولة المطبخ بعد أن تأكدت من نوم سمية وعدم عودة أحمد حتى الآن، ومي مي ترغب في اللعب.
بمجرد وضعها للطبق الأخير على الطاولة أنضم إليها حمزه وجلست متلذذاً برائحة الطعام، قبل أن يسكب لنفسه سألها: إنتي اللي طابخة الأكل دا ؟
ترددت قليلاً خافت أن تجيب بالإيجاب يتركها ولا يتناول الطعام كما فعلها قبل أيام، حزمت أمرها: أيوه
أخذ ملئ الملعقة الكبيرة وسكب في طبقه وشرع يتناول بشهية شديدة، يمدح نَفَسَها في إعداد الطعام ومهارتها.
لجمت أسئلتها عما قلب حاله إلى ما بعد الأكل؛ حتى لا تتسبب في فقده للشهية لأي سبب، أكلت بهدوء وهي تستمتع برؤيته يأكل كأنه لم يذق الطعام منذ .. خلافهما.
لم تقدر على منع ضحكتها: أنت شكلك يفطس من الضحك، عامل زي العيل الصغير اللي بعد ما قضى شهر ياكل ف طبيخ مامته اللي مش بيحبه أخيراً حنت عليه بالبيتزا ههههههههههه
نظر لها شذراً وقد ضاقت عيناه: بس على فكرة دي مش بيتزا، دي صينية بطاطس
أخرج لها لسانه مغيظاً بينما هي ازدادت في الضحك حتى كادت تسقط من فوق مقعدها، لم تلحظ الإبتسامة الحانية التي ظهرت على وجهه؛ لقد اشتاق حقاً لرؤية الفرحة تلمع في عيونها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق