الفصل الثاني والعشرون


أرجعت رأسها للخلف تُسندها إلى ظهر الأريكة، تناولت زهرة كفها تربت عليه بحنان والشفقة تملئ عينيها، لا تقدر على قول كلمات لن تقدم ولن تؤخر فقط ستزيد عذاب قلة الحيلة إلى عذاب أختها.
تنهدت نجلاء بحزن: لسه حابس نفسه ف أوضة الضيوف ؟
ردت عليها حياه محدقة في السقف: زي ما هو، خمس شهور ع الحال دا لحد ما خلاااص حاسه إني بأتخنق بالبطئ وإن فيه حبل حوالين رقبتي كل يوم عمال يضيق زيادة
زهرة مواسية: جوزك يا حبيبتي ولازم تصبري .. أكيد هتفرج عن قريب
وجهت نجلاء حديثها إلى زهرة: هو صحيح اللي ما يتسمى دا مات ؟
تشهدت زهرة: أيوه .. مات .. الرصاصة دخلته ف غيبوبة مافاقش منها ..
أشاحت نجلاء بيدها: أحسن .. ربنا ينتقم منه .. ويكون مكانه النار ف جهنم
لامتها زهرة بهدوء: ربنا العالم باللي عملوه وهو العدل اللي هياخد الحق من الظالم ويرجعه لصحابه
ثم أضافت مخاطبة حياه: عرفتي أنه كان بيهرب أثار ؟
نظرت لها حياه وقد أتضحت أمامها معالم الأمر: عشان كدا كان عندنا ف سوهاج !
شهقت نجلاء: يعني مش قواد وقتال قُتله بس لا وكمان مُهرب .. ربنا ينتقم منه
اعتذرت حياه من شقيقتها: أنا أسفة أوي يا زهرة على اللغبطة اللي عملنهالك ..
ضحكت زهرة بهدوء وغمزتها: يظهر مش إنتي السبب ف عدم جوازي لحد دلوقتي زي ما محمود كان بيقول .. شكلي أنا اللي فقرية ههههه
لم تقدر حياه على الإبتسام لكنها شكرت أختها لعدم تحميلها الذنب فيكفيها بل ويفيض تحميل حمزه عليها، انتبهت لبقية الحديث: ع العموم جوازنا كمان شهر ونص .. كل الحكاية بدل ما كنت هنكتب الكتاب وبعدين الفرح هيبقى كله في يوم واحد ..
سألتها نجلاء: إنتي وعصام هتتجوزوا ف يوم واحد ؟؟
ابتسمت لها زهرة: أيوه .. أخوات بقى وكدا هههههه
بادلتها نجلاء البسمة: ربنا يتمملكوا على خير
- آمين يا رب
سألت حياه عن حال سمية فأجابتها نجلاء حزينة: على طول ف أوضتها يا تعيط يا تقرا قرآن وهي بردو بتعيط ...
أشفقت على حال الزوجة المنكوبة: ربنا يصبرها
نهضت نجلاء: أنا هأروحلها بقى .. من ساعة ما مات بابا –الله يرحمه- وأنا قاعدة معاها في البيت وبأحاول أقنعها تيجي تقعد عندي بس مش راضية خااااالص .. وأنا قعدت البيت دي تعبتني .. شايفة بابا ف كل حته حوليا .. أعصابي مش قادرة تستحمل
طمأنتها حياه: مسيرها تهدا وتطلب بنفسها أنها تيجي معاكي .. أول ما تقتنع أنه مش راجع تاني
ودعتها الأختان، أبلغت زهرة شقيقتها أن عصام على وشك المجئ ليقودها إلى منزلهم فوالدها قد أختل نظامه ويرفض تناول الدواء كما أن الحمل زاد على عائشة كثيراً.
ألتمست حياه لها العذر وجلستا تتكلمان حيناً وتصمتان أحياناً، أتى عصام وجلس يطمئن على أحوالها وحاول رؤية حمزه ولكن لا حياة لمن تُنادي، عقب مغادرتهما قررت الإطمئنان على حال زوجها.
وقفت على باب غرفة الضيوف التي أنتقل إليها بعد العزاء؛ هاجراً إياها يحملها ذنب ما حدث، كيف لا وقد كان شادي بعد إصابته يلفظ بأنه كان يريد قتلها هي لما سببته لدمار في حياته، لقد دافع عنها والد زوجها، متلقياً الرصاصة عوضاً عنها وعن ابنها.
جالس على سجادة الصلاة يمسك مُصحفاً بين كفيه تالياً آياته في صمت، جلست أمامه على الأرضية بصعوبة لأن بطنها المنتفخ ذات الشهور الثمانية أو تتخطاها بعدة أيام قد أعاقت حركتها.
لم يلتفت أو يشعرها بأنه انتبه لوجدها، ألمها ذلك لكنها صممت على إنهاء هذا الوضع في هذه اللحظة بأي شكل ومهما كانت العواقب.
بدأت الحديثة محدقة به: حمزه .. أنا فاهمة إحساسك .. صعب أوي تكون متجوز وعايش مع واحدة تحت سقف بيت واحد وهي السبب ف موت والدك –الله يرحمه-، مش هأقول أنا ماليش ذنب .. لإني كفايه أوووي إني أنا اللي دخلته حياتكم بدخولي فيها، كان لازم أفهم إنه أنا غلطتي اللي غلطتها ف لحظة طيش غبي هتفضل لازقه فيا طول العمر وهأفضل عايشه ف نتايجها لحد ما أموت .. عايز تحملني الذنب أنا مش هأمنعك .. بس ما تعملش ف نفسك كدا .. حالتك دي بتوجعني أكتر من بعدك عني .. فوق من اللي أنت فيه .. لو عايز تطلقني أنا موافقة ولو عايز ترجعني لأهلي وتفضلي معلقني من غير طلاق بردو موافقة ولو عايزني أفضل هنا وأعيشخدامة تحت رجليك بردو موافقة بس ما تعملش ف نفسك كدا .. أبوس إيديك
تناولت كفه تقبله لكنه سحبه بعيداً، وضع المصحف جانباً وجذبها إليه يضمها ويمتص حزنها: أنا مش مشيلك الذنب .. أنا عارف أنه دا قدر ومكتوب لكن الأسباب هي اللي بتختلف، هو مكتوبله أنه يموت ف الساعة دي خلاص هيموت سواء بطلقة رصاصة أو عربية معديه أو أزمة تحصله فجأة .. أنا بعدت عنك مش لوم عليكي .. دا عشان تقصيري نحيتك
رفعت عينيها المملؤة بالدمع: تقصيرك إزاي؟ .. مش فاهمة
تنهدت مخرجاً ما اعتمر بداخله: والدي –الله يرحمه- هو اللي قدر يحميكي ويحافظ على حياة ابننا، عرفة يعني إيه كل ما أتخيل إنه لولا إنه أدخل كان زمانك وقتها واقعة بين إيديا غرقانة ف دمك وأخسرك إنتي وابننا من غير ما يكون ف إيدي حاجه ؟؟ .. صعب أوي إنك تحسي إنك المفروض راجل والمسئول عن حماية مراتك وابنك وف الأخر ما تقدرش تعمل دا ... حسيت إني بأموت
تحسست وجنتيه الخشنتين بسبب تركه لذقنه دون حلاقه لعدة أيام، قالت بحنان يغمره الحب: أديك قولتها .. دا مكتوب .. مكتوب إنه الحكاية دي كلها تحصل وأنا وابننا نكون بخير .. حتى لو جات فينا ما كناش هنتأذى لأنه ربنا لسه أمرلنا بعمر .. ما تلومش نفسك يا حمزه، أنت لو كنت تعرف عمرك ما كنت تتأخر ف حمايتنا أنت سيد الرجاله ف عيني .. أنا أصلاً ماعرفتش الأمان إلا معاك .. لما شوفتني أنا ومي مي لما كنا بنتخطف .. أنا كنت مرعبة بس لما شوفتك عرفت .. أطمنت، اتأكدت وقتها إنك مش هتخلي حد مننا يداسله على طرف وهتلحقنا .. بعيداً إننا قدرنا نهرب .. وإني وقتها كنت لسه مش طايقاك بس دا كان موضوع مفروغ منه بالنسبه لي
ضمها أكثر إلى ضلوعه: ربنا رزقني بيكي .. ولحد دلوقتي مش لاقي طريقة مناسبة أشكره بيها
سحبت نفسها على مضض: هتاكل ؟ .. أنا جعانه أووي وابنك جعان خالص بس اتفقنا مش هناكل من غيرك
قهقه وتحسس بطنها شديد الإنتفاخ بالنسبة لوضعها الطبيعي: وأنا كمان هأموت م الجوع
نهضت مستندة على طرف الفراش متمهلة: بعد الشر .. دقايق ويكون الأكل جاهز
انصرفت فيما نهض هو يضع المصحف في مكانه ويطوي سجادة الصلاة بتأني، وصل إلى مسامعه صوت تحطم الأطباق تلاه صراخ عالِ من حنجرة حياه. أسرع راكضاً إليها وقد اعترتها حالة من الفزع لا مثيل لها.
وقفت مستندة إلى أحد الكراسي الموضوع في المطبخ تقبض عليه بشدة بينما يديها الأخر تمسك بطنها، كان هناك سائلاً يشبه المياه يتساقط من بين ساقيها، رفع عينه إلى وجهها جاحظاً عيونه: هو في إيه ؟؟
قوست شفتيها لأسفل وترقرق الدمع بمآقيها وتجعد وجهها مبدياً أنها على وشك البكاء: أنا شكلي بأولد يا حمزه ... عااااااا
وتلت الصرخات هذا التصريح، لم يتوقف إلا بعد خروج الطفل الصغير للحياة عبر والدته حياه، تمت تسميته أحمد ليصبح كالرسول الكريم –صلّ الله عليه وسلم- وكذلك ذكرى من جده أحمد الذي كان أكثرهم اشتياقاً لمقابلته وتعليمه كل ما يخص الحياة لكن شاء الله .. ألا يرى الجد حفيده.
***
لثم وجنتها سريعاً فقد شعر بتعجلها في الذهاب، ترجلت مسرعة ودلفت عبر البوابة، أخفض رأسه قليلاً يقرأ ما كتب على اللوحة المعلقة " جمعية أحمد العربي الخيرية " ثم ما كتب بخط أصغر أسفلها " صدقة جارية عن روح صاحبها أحمد العربي" اتسعت إبتسامته فخراً بزوجته، فلقد أنشأت هذه الجمعية بعد وفاة والدها متمنية أن تكون الولد الصالح الذي تركه والدها على الأرض فيكون سبباً بإرتقاءها إلى أعالي درجات الجنان.
وقفت مبتسمة في منتصف الحديقة حتى تجمهر حولها الأولاد منتظرين الحلوى التي تسببت في إنتفاخ حقيبتها كما اعتادت، بعد إنتهاءها من التوزيع توجهت إلى مكتبها تباشر عملها ومراجعة الملفات.
لقد شجعتها حنان على الفكرة بشدة فهناك في بلادنا العديد ممن يحتاجون العطف والحنان قبل المساعدة المادية، نمت في رأس نجلاء الفكرة بعد أن ذكرتها حنان بفؤاد أعمال الخير .. لكن ما جعلها تحزم أمرها هو موت والدها فكررت أن تضرب عصفورين بحجر واحد وقررت أن تكون هذه الجمعية هي صدقة جارية عن روحها.
استغرقت في الملفات ودراستها حتى لم تشعر بوصول حنان وأفاقت منتفضة على نغمة حنان الرنانة في طرق الباب، شهقت فزعاً: حرام عليكي خضتيني
جلست أمامها قائلة: بعد الشر عليكي يا بطة من الخضة
 سألتها عن الساعة، فأجابت: الساعة أربعه
ضربت جبهتها بمؤخرة كفها: يااااه .. دا الوقت سراقني
نظرت حنان إلى الأوراق المتكدسة أمامها: ربنا يعينك على عمل الخير كمان وكمان
- يا رب .. أومال ميّ فين ؟
- بتلعب برا مع صحابها الجداد .. ما شاء الله عليها قدرة غير عادية في تكوين الصداقات
- ربنا يخليهالك ويحميها .. وحشتني أوي .. وماما نفسها تشوفها جدااا
أشارت إلى عينيها: بس كدا؟؟ .. م العين دي قبل العين دي .. خلاص إحنا عازمين نفسنا عندكوا الجمعة الجايه .. بس هي مامتك عامله إيه دلوقتي؟
تنهدت مرتاحة: الحمدلله أحسن من الأول .. كفايه أنها وافقت أخيراً تيجي تعيش معايا أنا وفادي في بيتنا .. بعد ما تعبت أعصابها في البيت بتاعها وذكرياتها مع بابا –الله يرحمه-
شاركتها حنان الأسى: مع الوقت هتقدر تفوق أكتر من كدا
ثم هتفت بحماس: صحيح البيه أحمد الصغير أخباره إيه ؟؟
ضحكت نجلاء على سيرته: اسكتي دا مطلع عينها .. دا أنا تقريباً ما بقتش بأكلم حياه عشان ما أسمعش عياطه وصريخها هي هههههههه .. ماما بتقول عليه نسخة طبق الأصل من حمزه وهو صغير سواء في الشكل أو في التصرفات .. وهو يسمع كدا من هنا وتبقى الأرض مش سايعاه م الفرحة
قهقهت حنان: وهو يهمه إيه ؟ .. مش بيروح يلاقي أكله جاهز وهدومه نضيفه ومكويه والبيت زي الفُل والواد نضيف وبيلمع
أيدتها نجلاء بشدة: فعلاً معاكي حق
تحولت نبرة حنان إلى الجدية: صحيح قبل ما أنسى .. فيه مأوى عندهم عدد زيادة ومش عارفين يودوهم فين لأنهم مش لاقين مكان فاضي .. لو عندك مكان زيادة ممكن نخليهم يجوا هنا ؟؟
تناولت نجلاء أحد الملفات من الدرج المجاور لقدمها وبعد أن درسته قليلاً أومأت موافقة: فيه أربع أوض لسه فاضيين .. وإن شاء الله على أخر الشهر هنبدأ نحول الجزء اللي ورا المبنى اللي فاضي دا لجناح زيادة يوسع المكان
فرحت حنان بشدة لهذه الأخبار واستأذنت تحادث مدير المأوى ليرسل ما فاض لديه من أشخاص يحتاجون المساعدة، شعرت نجلاء بسلام داخلي، فقد عوضها هذا المكان عن فراغ يومها ومشاعر الأمومة الفائضة لديها ولن تستطيع إشباعها إلا أن تصبح أماً للذين فقدوا أمهاتهم كالأطفال الراكضين بالحديقة خارجاً.
***
في محافظة بعيدة وعلى وجه التحديد محافظة السويس .. وقفت بملابسها المعتادة التي تكشف مفاتنه وتبرزها، مالت قليلاً وسألت المساعد الأقرب إلى رئيسها: هو البوص فين يا رامز ؟
تأمل جسدها بجوع واضح لكنها لم تعره إهتماماً فقد أصبحت تلك النظرات بلا قيمة من كثرة ما تعودت عليها، أجابها بتمهل واضح حتى يجعلها تقف أمامه لأطول فترة ممكنه: هيكون فين يعني؟ .. جوا ف مكتبه
سارت بدلال وجسدها يتلوى كالأفعى التي يعزف لها صاحبها على المزمار لتخرج من مخبأها، دفعته بظهر كفها ليتنحى عن طريقها، طرقت بخفة على باب الغرفة ثم دفعته ودخلت.
حدقت إلى الرجل الواقف أمام النافذة يتابع حركة السفن فوق الميناء، اقتربت منه وعقدت ذراعيها حول خصره ووجنتها تستند إلى ظهره.
سألته مستفسرة: بتبص على إيه ؟
دون أن يتزحزح أجابها: بأبص ع الشحنة واتأكد إنها وصلت ...
بعد فترة صمت؛ انتصبت معتدلة في وقفتها وأدرته إليها تحدق في عيونه لتعلم صدقه من كذبه، سألته: مالك؟
تنهد وأجابها بصراحة وبدون مواربه: حياه ولدت
لوت شفتيها غيظاً: وأنت مالك ومالها ؟؟ .. ما تولد
رفع حاجبيه في استياء: مالي إزاي؟؟ .. إنتي نسيتي هي تبقى مين واللي جابته دا يبقى مين ؟
أومأت متفهمة ما يقول: لا أنا عارفه كويس هي مين .. بس اللي باستغرب له أنت واهتمامك الزيادة أوي بيها دا
وضع يديه في جيوبه وسألها بصوت بارد كالثلج: ممكن توضحيلي فين الإهتمام الزايد دا ؟
وضعت يديها فوق خصرها: خليت شادي يبطل يطاردها ويسيبها من غير ما تاخد العقاب اللي أنا وأنت عارفينه .. أمرتني إني أهربها وأهرب معاها قبل ما شادي يعمل معاها حاجه تانية .. وأخرهم ..
أشارت إلى نقطة ما في صدره وقد جعلت أصابعها على شكل مسدس: بوووم .. أخدت رصاصة ف صدرك وكنت هتموت .. عشان تفاديها وما تجيش فيها يوم ما شادي أتجنن وهجم عليكوا ف سوهاج ..
أنزل يدها بعيداً عن صدره: قولتلك مية مرة أنا عملت كدا ليه .. حياه دي تبقى مرات ابني وكمان كانت شايله حفيدي في بطنها .. عايزاني أسيب واحد متخلف زي شادي دا يموتهم بسهولة كدا ؟؟
لوت شفتيها باستهزاء: تقوم تعرض حياتك للخطر ؟؟
قابل استهزاءها بسخرية: ما سمعتش عن المثل اللي بيقول "أعز من الولد .. ولد الولد" ؟
عدلت ياقة قميصه بدون داعي متلكئة: يعني ولد الولد هو السبب ولا ...
نفر منها غاضباً عندما أدرك تلميحاتها الملتوية: إنتي أتجننتي باين يا نيفين !، دي مرات ابني .. بلاش الأوساخ اللي ف دماغك دي .. ابني أتجوزها يعني شرفها بقى من شرفي وشرفه
اقتربت تحاول إمتصاص غضبه بدلالها: معلش بقى يا دودوي .. ما أنت عارف يا أحمد أنا بأحبك قد إيه .. وأما صدقت خلصت من مراتك الأرشانه دي ..
أكتفى بأن أدار لها ظهره حانقاً لما لقبت به زوجته، هو يحب سمية بل ويعشقها لكنه متأكداً أنها إذا علمت بحقيقته البشعة ستبتعد عنه وتنبذه فقرر هو الإنسحاب محافظاً على ماء وجهه.
لقد تم حجزه في العناية المركزة لدخوله في غيبوبة امتدت يومان، أفاق طالباً من الممرضة ألا تخبر أحداً باستيقاظه وأعطاها رقم رامز حتى تهاتفه ليأتي إليه فوراً وذلك بالطبع مقابل مبلغاً من المال.
أتى رامز يُلبي نداءه بسرعة، اتفقا على أن يُشاع نبأ وفاته فلقد أتت أخبار مؤكدة ببدأ الشك فيه وأن الشرطة قاربت على كشفه وسيقضي ما بقى له من عمر في غياهب السجون.
سقط في الغيبوبة مجدداً فلم يستطع رامز فعل شئ سوى إنتظار إفاقته مرة أخرى، أفاق بعدها بحوالي عشرة أيام، أعطى مبلغاً لا يُستهان به إلى الممرضة لتصرف جميع من يربضون أمام بابه وتخبرهم في الصباح خبر وفاته، أحضر رامز جسد رجل يشبهه في العمر والبنية العامة بعد أن نقد أهله الأموال الكافية لإغلاق أفواههم، نُقل إلى مستشفى في السويس بواسطة عربة الإسعاف فيما عائلته تبكي منكوبة لفقدانه بسبب شخص لا يساوي شيئاً.
ظل في المشفى حتى قبل أسبوعين فقط، وأثناء غيبوبته قام رامز بدفع بعض الرجال لقتل شادي الذي أصابه طلق ناري نتيجة دفاع الغفير في منزل فاروق عن الموجودين .. يعلم أن شادي ذاك قد رأى وجهه قبلاً، ولمح نظرت الدهشة والذعر ممزوجتين داخل مآقيه فكان الحل الأسلم هو موته ليُبقي هو على حياته وحريته، لقد حاول التخلص من بإبلاغ الشرطة عنه وعن مقر الدعارة الذي يديره لكنه استطاع النجاة، فبدلاً من الإكتفاء بحبسه أصر على الموت ولفظ أنفاسه الأخيرة.
لقد أتجه إلى هذا الطريق ليوفر لزوجته المعيشة التي تليق بها، لكنها أبداً لم تكن لتتفهم ذلك فهي ستقبل أقل مستويات العيش مادام من مشاريع مُباحة وأموال مشروعة.
كان ما يقلقه دائماً هو تخيله لرد فعلها إذا علمت بوجهه الأخر، أُضيف إليها حفيده الصغير الذي أسموه تيمناً به، سخر من ذاته مفكراً .. إذا اكتشفوا بقاءه على قيد الحياة وخداعهم كل تلك السنوات سيصرون على إبقاء الصغير يحمل اسمه؟
أحمد الصغير .. حفيده، يجب أن يبتعد عن الأعين وألا يتم القبض عليه ليراه يكبر حتى توافيه المنية، أكثر ما يجعله متمسكاً بحريته وحياته الهاربة هذه هو ذاك الطفل .. قطع عهداً على نفسه أن يذهب ويراه في أقرب فرصة تُتاح له.
تزمرت نيفين من تجاهله لها، لكنها تدرك أيضاً أنه إذا غرق بأفكاره إلى تلك الدرجة فهذا لا يعني إلا أنه لن يفيق لنفسه أو لمن حوله إلا بعد مرور مدة طويلة ليس لها مدى فانسحبت من الغرفة بهدوء.

0 التعليقات:

إرسال تعليق