الفصل الواحد والعشرون

السعادة تشع من عيونهم جميعاً فرحة بالخبر الأكيد، ضمت سمية ابنتها في حب باكية ولسان حالها لا يتوقف عن حمدالله والثناء على رحمته بهم.
سمية بفرحة لا مثيل لها: الحمدلله كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك
ما تزال نجلاء لا تصدق صحة الوضع: أنا لحد دلوقتي مش مصدقة .. يعني خلاص كدا رجعت زي الأول وما بقاش فيه داعي للكيماوي ولا الجلسات ؟؟
أحاط فادي كتفيها بذراعه: وأحسن م الأول كمان .. الدكتور قال إنه كان صغير وف بدايته لكن كان ضاغط على منطقة حساسة في المخ وأي تدخل جرحي ف وقتها كان فيه خطر على حياتها فما كانش فيه حل قدامه غير الكيماوي والحمدلله جاب نتيجة
صاحت سمية بزوجها: لازم يا أحمد ندبح أضحية بسبب الخبر دا .. لازم نفرح الناس معانا
أومأ أحمد مؤيداً فكرتها: ما تحمليش هم، أنا هأتفق مع الجزار اللي كلمناه على أضحية العيد عشان يعمل حسابه ف عجل زيادة
ضحكت نجلاء: أول مرة أشوف ناس بتحجز أضحية العيد الكبير قبل العيد الصغير ما يجي أصلاً
نظرت لها أمها معاتبة: يا بنتي دا فاضل أربع أيام بس على رمضان .. والوقت بيفوت بسرعة .. كمان كدا أحسن عشان الجزار يدينا حاجه نضيفة مش أي حاجه والسلام ..
تناول فادي يد حماته مقبلاً إياها: كل سنة وإنتي طيبة يا ماما
ربتت على كتفه بحنان: وأنت طيب يا حبيبي .. عقبال كل سنة وإحنا متجمعين يا رب
بارك لأحمد كذلك قبل أن يعتذر هو ونجلاء التي بررت: معلش بقى مضطرين نستأذن عشان كنت واعده حياه أمر عليها .. أطمن عليها هي والبيبي ..
قهقه فادي على الذكرى: دا أحمد طلعان عينه من الوحم بتاعها .. ربنا يصبره
ابتسم أحمد بسعادة: هههه كلنا لها .. هو لسه شاف حاجه .. التقيل لسه جاي
قطبت سمية حاجبيها: قصدك إيه يا أحمد ؟؟
تنحنح مستدركاً ما قاله: قصدي كل خير يا حبيبتي ..
نهضت نجلاء واقفة: كلها شوية وتعدي فترة الوحم .. هي لسه ف التالت
ساندتها والدتها فيما قالت ثم ودعتها تدعو لها بدوام الصحة والعافية، اقترح عليها أحمد أن تصلي ركعتين حمداً لله الذي تتم بفضله النعم.
وافقته ونهضت تتوضأ ثم تصلي تدعو بقلبها قبل لسانها أن يسعد ابنتها وابنها، أن يسعدا ولا يشقيا في حياتهما ويظلون بقرب الله مهما كانت وطأة المصاعب ودهسات الحياة.
***
وقفت نجلاء بشرفة منزلها تحجب حزنها، لقد أخبرت جزءً من الحقيقة لعائلتها لكن قلبها لم يطاوعها بكسر فرحتهم بالبقية، يكفي أن قلبها يتصدع ألماً فقد أكد الطبيب بعد إنهاءه قراءة التقارير والتحاليل الطبية أن أي أمل لها في الإنجاب قد ذهب أدراج الريح.
اقترب منها فادي وضمها من الخلف صامتاً، استدارت إليه وبدأت الحديث مخفية تمزقها مما تقول لكن انجلى أوان الأنانية: عايز تتجوز؟ .. مش هأمنعك ولا هأقف ف طريق سعادتك .. أنا كنت الأول بأفضل أفكرك بأفضال بابا عليك علشان تفضل جنبي وتحس إنك مديون ليه وليا .. كنت بأعمل كدا وأنا كارهة نفسي بس كنت عايزاك جنبي بأي شكل .. لكن دلوقتي .. بعد ما عرفت أنه الحياة أقصر بكتير من إني أضيع عليك تعيشها أو تحقق أمانيك فيها .. فأنا بأخليك من أي وعد وعدتهولي قبل كدا .. هأفرحلك لما تشيل ابنك من واحدة تانية وهأتمنالك السعادة
لم تشعر بالدموع تهبط من محابسها، فيما استعر الغضب والغيظ بداخله، أمسكها من كتفيها بقوة: اسمعي الكلام دا كويس لإنه ماعادش عندي استعداد إني أعيده تاني .. أنا ما فكرتش أبقى أب أو يكون عندي ولاد إلا لما إنتي حبيتي الموضوع وكان نفسك فيه .. دا أنا حتى ما كنتش أتخيل نفسي هأبقى متجوز خصوصاً ف الوقت اللي إنتي ظهرتي ف حياتي فيه .. وأظن إنك فاكره كويس حالتي كانت إزاي .. وقد إيه أحوالي المادية والنفسية كانت زي الزفت .. بس ربنا وقتها بعتك ليا نجدة من السما .. لحد دلوقتي بشكره ف كل وقت عليكي .. والولاد ما فكرتش فيهم غير عشان إنتي هتبقي أمهم .. لكن لو واحدة تانية يبقى شكراً .. إنما لو حابه تخلصي مني وخلاص .. وعماله تدوري على حجه فكدا بقى موضوع تاني
ابتسمت سامحة لبواقي الدمعات بالولوج إلى فمها: أتحجج ؟؟ .. أنت عارف قد إيه كنت بأموت من جوا وأنا بأقولك روح أتجوز وعيش مع واحدة تانية ؟؟ .. أنا قولتلك هأتمنالك السعادة وهأفرحلك بس دا كلام وقت ما خرج عرفت فعلاً إني مش هأقدر أنفذه .. بص أنا أبطل أنانية ف كل حاجه .. إلا فيك وف حبي ليك
أحاط كتفيها بذراعه ودفنت هي وجهها في عنقه تشتم رائحته المحببة إلى قلبها، همس لها مبعداً خصلات شعرها: يعني مش هنفتح الموضوع دا تاني؟ .. اتقفل خلاص؟
أومأت صامتة تستكين بين يديه، بعد فترة هدوء عذب: عارفه .. في حاجات أجمل من الولاد
نظرت له متعجبة: إيه الحاجات دي ؟
ضحك: الشيخ حمزه قالي عليها ف مرة .. قال الله –سبحانه وتعالى- "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا" .. يعني أه أحلى حاجه ف الدنيا الفلوس والولاد بس دول حاجات في الدنيا أكتر منهم ف الأخرة .. يعني الولد ممكن يطلع عاق .. وقتها مش هيبقى زينة لحياتك وممكن الفلوس دي تضيع ف لحظة .. لكن الباقيات الصالحات دي هتفضل موجودة لحد يوم الحساب
عضت شفتها السفلى قاطبة حاجبيها: أنا فاكرة إني سمعتها قبل كدا بس مش قادرة أفتكر فين .. هي إيه الباقيات الصالحات ؟
تخلل شعرها بأصابعه باسماً: دي أذكار زي .. سبحان الله، الحمدلله، الله أكبر، لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله .. وغيرهم أو الأعمال الصالحة اللي بتعمليها
كأنها انتبهت فجأة، حدقت به بشك: أنت قولت حمزه هو اللي قالك الكلام دا ؟؟
أومأ ضاحكاً: يظهر أنه أخته استعجبت لحالته أكتر مني شخصياً هههه
سرحت بنظرها بعيداً متمتمة: فعلاً حاله انقلب .. بقيت لما أشوفه ابتسم مهما كانت حالتي النفسية مش مظبوطة .. فيه حاجه اتغيرت .. بس ما أقدرش أنكر إنها للأحسن
وافقها بشدة: من ساعة جوازه من حياه وهو اتغير .. ويمكن من ساعة ما عرفها كمان
أضاف: دا كفايه حركة كارت الدعوة اللي عملتها دي .. عليت ف نظري جامد
حدقت في وجه زوجها لحظات قبل أن تنفجر ضاحكة، سألها متعجباً عن سبب تلك النوبة، أجابته: أصلي افتكرت الدبابيس والبينز اللي وزعتها في الفرح .. حاجه مسخرة الحقيقة ههههههه
أمسكت معدتها التي ألمتها من قوة الضحكات: تصدق قابلت عمو عبد الرحمن من كام يوم لما روحت لماما وبابا .. قالي أشكرله حياه جداً على الدبوس بتاعه لحد ما يقابلها عشان هو بقى حاطه ف جيبه دايماً وكل ما يحط إيده فيه يطلع يقراه يضحك ويحمد ربنا
ابتسم فادي: هي كانت كتباله إيه ؟
قهقهت بشدة وقالت بصعوبة: كتبتله "إحمد ربنا لتجيك حاجه ف الكِله"
شاركها: أنا بردو شايل البين بتاعي وكل ما أشوفه أضحك .. كتبالي "ما تقولش والنبي دا شرك يا مفتري"
كادت تسقط أرضاً من الضحك، هتفت: دا على كدا بقى أنا عاملتني باحترام شوية ؟
سألها: وإنتي كتبتلك إيه ؟؟
انفجرت ضاحكة: "سيبي المواعين لبعد الصلاة يا فوزية" ههههههه
مرت عليهم عدة دقائق لا يستطيعان وقف ضحكاتهما، وبعد مرور تلك النوبة وعودة تنفسهما للإنتظام قليلاً طلبت نجلاء من زوجها: أبقى فكرني لما نروحلهم المرة الجايه .. أخد منهم سي دي الفرح .. لما شوفته حبيته أوي .. خصوصاً الصور اللي أخدهالكوا بولا وأنتوا بتصلوا .. حلوة أوووي .. أنا أخدت منها نسخة للصورة دي وحطتها في الألبوم عندي
ضحك فادي: ولا التسجيل لجرجس وهو بيتكعبل في سلك المايك بعد الصلاة أما جه ينزل هههههه كل ما أشوفه أسخسخ على روحي م الضحك
تنهدت بقوة: يااااه، ساعات بأتمنى إني كنت أعرف حياه قبل ما أعمل فرحي عشان يبقى بالحلاوة دي
غمزها مغيظاً: خلاص نعمله من تاني .. بس ما أوعدكيش تبقي العروسة .. لازم تغيير بردو
ضربته بقبضتها الصغيرة في كتفه بقوة مما جعله يضحك، ضمها إلى صدره مقترحاً عليها أن يُسبح على عقلات أصابعها .. ذاكراً بعض الأذكار من الباقيات الصالحات، ثم تتناوب معه وتسبح على أصابعه هي الأخرى.
عندما رأى سعادتها باقتراحه وأنها أوشكت على القفز من السعادة تأكد من نصيحة حمزه له، إن طاعة الله وتشاركها مع من أحب تحول أصغر الأفعال إلى أفعال لا تُقدر بثمن .. لأن أجمل المشاركات دون مبالغة هي المشاركة في التقرب إلى الله ونيل رضاه.
***
استأجر الجميع باصاً صغيراً ينقلهم إلى سوهاج؛ فإن الأيام الأولى من رمضان تجعل القطار لا يطاق من شدة الزحام .. فهناك من يجلس أسفل مقعد وأخر لا يجد بُداً من الجلوس فوق حقيبة سفرك دون حتى طلب الإذن، هذا عدا الرائحة التي لا تطاق واستمرار الأطفال في ركضهم من عربة إلى أخرى متخذينه حديقة الأزهر دون مراعاة أن الناس إكلينيكياً بدأوا بالتساقط من فرط الإختناق وعدم وصول الأكسجين الكافي إلى أنسجتهم.
تتقزز من رائحة العرق التي تحاوطك، وفي تلك الأوقات لا يوجد فرقة بين الدرجة الأولى وعربة نقل البضائع .. والرجل الذي يقطع التذاكر يلتزم الصمت يكتفي بقطع التذاكر مدركاً أن أقل كلمة اعتراض ستتسبب في إلقاءه من نافذة القطار أثناء سيره.
المكيف .. ليس له داعِ، ففي تلك الأوقات مهما كانت قوته لن يؤثر في أعداد الأنفاس التي تتزايد ولا تقل، وكأنه يشعر بالإختناق فيكتفي باللهاث كل عدة دقائق.
فضل الجميع السفر سوياً مستأجرين الباص وأخذ استراحة على فترات أثناء الطريق، لقد أصر فاروق على دعوتهم جميعاً إلى الإفطار في اليوم الأول من شهر رمضان الكريم، كما أن قران زهرة سيعقد اليوم؛ فبعد طول إنتظار وصبر رزقها الله بمن أرضى نفسها.
أثناء الطريق أرتفع أذان المغرب معلناً موعد كسر الصيام وبل الريق بشق تمرة أو قطرات مياه، فيما تخرج سمية زجاجات المياه التي اشترتها من الاستراحة الأخيرة، كان هناك رجال يقفون بالطريق ويلقون بأكياس داخل السيارات المارة ويقولون مهللين "كل سنة وأنتوا طيبيـــن".
كانت عبارة عن أكياس من مختلف أنواع العصائر، فكانت مجموعة تلقي بعصير البرتقال وأكياس بها ماء، وبعد مسافة تُلقى أكياس أخرى من مشروب التمر الهندي وعصير المانجو .. وأكياس من التمر الجاف.
ابتسم الجميع فرحين بتلك الأشياء الصغيرة، تركوا ما أحضروها جانباً وبدأوا في تناول تلك العصائر، أخبرهم السائق أن هذه هي العادة طوال شهر رمضان بالأخص في بدايته حيث يشق على البعض الصيام أثناء السفر ويصمونه البعض منصاعين لكن الخوف من عدم الحصول على الماء أو ما يشق الصيام كان يقلقهم فأصبحت العادة أن يقفوا على الطريق ويهبون تلك العصائر للمارين، عوضاً عن موائد الرحمن لمن لا يستطيع تحمل تكلفتها.
قهقه السائق متذكراً أن أحد السائقين لم يكن دينه الإسلام فتوقف وأعاد إليهم الأكياس لكنهم أبوا ذلك مبررين أنهم يمنحونها لمن كان صائماً أو فاطراً من المسلمين فما ضير غير المسلم .. ثم أخبروه أن هذا رزقه وتلك أخر الأكياس لديهم فليشربها هانئاً.
وصلوا إلى منزل عائلة حياه حيث استقبلهم فاروق بترحاب شديد كعادته، كان الجميع في إنتظارهم حتى يتناولون الإفطار سوياً كما كانت في صحبتهم عائلة خطيبة عصام وخطيب زهرة الملقب بجلال وأسرته، مُدت الموائد في الحديقة وانفصل الرجال عن النساء في الطعام.
كانت طاولة النساء معهن الأطفال واقعة في الحديقة كذلك لكن جزء من جدار المنزل يحجبها عن طاولة الرجال بحيث يستطعن رؤيتهم والعكس غير ممكن.
أتخذت السيدة الكبار جانباً من الطاولة يتحدثون في شتى الأمور ما بين الأولاد ورعايتهم وزواج البنات الوشيك وخلافه من أحاديث، فيما طغى المزاح والمناوشات الصيبيانية بين الفتيات الأصغر سنناً في الجانب الأخر.
ضحكت خديجة خطيبة عصام: ياااه أنا مش مصدجة نفسي .. كلها كام شهر وألاجيكي بتمشي تدألچي
شاركتها نجلاء: هيبقى منظرها تحفة
ضيقت حياه عينيها بغيظ: ما تبس يا بت إنتي وهي .. دا إيه الاستفزاز اللي ع الفطار دا
سألتها عائشة: يا بنتي كنتي فطرتي أحسن .. الحمل لوحده وبيبجى متعب أنا كان طالع عيني .. إزاي مستحملاه ويَّا الصيام ؟؟ ..
ابتسمت لها حياه: أنا كدا مرتاحه والحمدلله الدكتور قالي عادي بس ما أرهقش نفسي زيادة وأقلل المجهود وقت الصيام وهأبقى تمام .. أضيع أجمل شهر في السنة ليه بقى ؟؟ ..
 تدخلت شقيقة جلال الصغرى "سعاد" وقد كانت تعرف حياه من المدرسة رغم أنها تصغرها بثلاث سنوات: ما ممكن تعوضي الصيام دا ف وجت تاني بعد الولادة
ابتسمت لها حياه إبتسامة حالمة: دا جمال الصيام إنه بيبقى ف رمضان وسط اللي بتحبيهم وتجمعيهم وإنتي عارفة أنه الشياطين محبوسين والملايكة محاوطينك وبيدعولك 
تمعنت بها شقيقتها: بس لونك مخطوف وشكلك تعبان ..
طمأنتها باسمة: ما تخافيش هو بس عشان طريق السفر مش أكتر وهأبقى كويسه
ابتسمت سعاد: ربنا يجومك بالسلامة
- الله يسلمك يا حبيبتي .. عقبالك
تعالت ضحكات نجلاء فجأة مما أدى إلى استغراب الجميع وسؤالها عن السبب فردت غير قادرة على إيقاف ضحكاتها: كل ما أتخيل شكل حياه لما بطنها تكبر شوية ما أعرفش ليه بأشوف شكل خِله بالعه زتونة
قهقه الجميع، علقت خديجة مازحة: أو عرسة عندها إنتفاخ بردو هههههه
أشارت عليها نجلاء بإبهامها: أيوه صح
دافعت عنها عائشة: حرام عليكوا .. هو بمزاچنا يعني .. دا حمل تَجيل وواعر جوي
كزت حياه على نواجذها: سيبيها يا عيشه .. أنا سايباها بمزاجي
ردت عليها نجلاء بغرور: ولا تقدري تعملي حاجه يا أوختشي
أخرجت لها لسانها: أوختشي؟ .. إنتي كنتي شغاله صبي رقاصة قبل كدا ولا إيه ؟؟
قهقه الجميع، ضيقت نجلاء حدقتيها: إيه الكلام اللي من أيام الحرب العالمية دا ؟؟
ردت سعاد هذه المرة ضاحكة: عالمية ولا عالتالتوميه
ضربات حياه كفها بكف سعاد مشجعة: حلوه دي ههههه
غرق الجميع في نوبات من الضحك، استمر المزاح والمداعبات حتى رُفع الطعام وأعلن الأذان على موعد صلاة العشاء، قرر الجميع الصلاة في المسجد وعقد القران بالمسجد حيث ستصلهم الأصوات من مكبرات الصوت فالمسجد ليس ببعيد، ثم يتوجهون إلى صلاة التراويح.
فيما يتوافد الناس عقب الصلاة؛ النساء إلى المنزل والرجال إلى المسجد يحضرون العقد ويطلقون النيران في الهواء فرحين مهللين.
وقفت حياه بين ذراعي زوجها تعيد ضبط وضعية الجلباب فوق أكتافه والعمامة التي أكسبته مظهراً رجولياً لا تتخطاه العين، مضيفة إلى بنيانه قوة وإلى جسده جلد وقسوة.
همس لها باسماً بخبث: عارفه بأتخيل إيه ؟
ابتسمت: إيه ؟
نظر جهة بطنها وقال: لما الحمل يظهر وتبقي شبه البندا كدا وأجي وأقولك بكل رخامة وغلاسة وسماجة "إيه ياخواتي القمر ده .. أنا بايني أتجوزت فيل"
أغاظتها مزحته جداً لكنها قررت رد الكيل له ثلاثاً، داعبت صدره من فوق القماش قائلة بدلال: عارف ساعتها أنا هأقولك إيه يا حبيبي ؟
اتسعت إبتسامته متوقعاً رداً أشد غيظاً: إيه ؟
وضعت يدها فوق خصرها وضيقت عينيها متمتمة بغيظ: لو مش عاجبك طلقني !
ضرب يدها لتسقط عن خصرها وصفع رأسها من الخلف قائلاً بجدية وثقة: جاتك طلقة ف نفوخ اللي يكرهوكي ..
ثم غمزها بمكر: ما تجيبي بوسه أبت
غرقت في الضحك وقد استغرقهما المزاح حتى إنهما لم يشعرا بالجلبة التي حدثت من خلفهم، فجأة ارتفعت طلقات النيران في الهواء، تلتها جثة سقطت عند قدمي حياه، استقبلت سقوطها أمام عينيها بصرخة مدوية وغرقت الأرض بدماء الضحية.
ركض الغفر يلحقهم محمود وجلال ليلقوا القبض على من بدأ المهاجمة فلم يكن سوى شادي وقد أصيب إصابة بالغة أفقدته الوعي.
أسرع فاروق يأمر عائشة بالإسراع في طلب الإسعاف بينما أنحنى عصام بجوار الجسد الممدد أرضاً يفحصه ويتأكد بأنه مازال على قيد الحياة.
ترقب الجميع إقراره، ارتفعت التنهيدات فهو يتنفس وهناك أمل كبير لنجاته، بكت نجلاء تضم والدتها المصدومة وتقوم رغبة عينيها في النظر إلى جثة والدها المسطحة فوق الأرض بإنتظار وصول سيارة الإسعاف لتنجده.
***
حضرت أمام طليقها بملابسها القاتمة حزناً على موت جدتها قبل شهرين فيما تُكَذب حاستها السابعة المتنبأة بسبب مجيئه وطلبه الحديث إليها على إنفراد، أطمئنت على انشغال ميّ بألعابها ثم عادت إليه مترقبة.
باغتته بسؤالها: كنت عايزني ف إيه يا خليل ؟
تناول رشفة من كوب الماء الموضوع أمامه فوق الطاولة ثم تنحنح: أنا قررت أطلق منال ..
حدقت به رافعة حاجبيها: وليه كدا ؟
تخلل أصبعه بين عنقه وياقة القميص في توتر: مش مرتاحين وخناقنا زاد الفترة الأخيرة
استفسرت متوجسة الإيجاب: أوعى أكون أنا أو ميّ السبب ف دا !
هز رأسه بالنفي: لا .. هي اللي أتغيرت ف أخر فترة وكأنها أتحولت واحدة تانية
قوست شفتيها شفقة: ربنا يصلح بالكوا ويهدي سركوا .. اصبر وما تستعجلش .. يمكن تكون فترة وتعدي على خير وترجع زي الأول وأحسن كمان
قطب حاجبيه فلم يكن هذا رد الفعل الذي كان بإنتظاره، ظن أنها ستفرح لخبر إنفصاله، لم يتردد ودخل في الموضوع الأساسي لمجيئه: أنا عايز نرجع لبعض تاني يا حنان
أغمضت عينيها فقد صدق حدثها، بعد صمت فتحت عينيها وحدثته بهدوء: وأنت فاكر إني ممكن أرجعلك تاني بعد كل دا ؟
كز على ضروسه: وليه لا ؟
حدقت به متعجبة من شدة غروره، أيظن أن بعد ما فعله بها وتركه لها في أشد المواقف صعوبة أن تعود له عقب إنقشاع الغمة ؟!، أجابته محافظة على هدوءها: خليل .. أنت سبتني ف عز حاجتي ليك .. رمتني ورا ضهرك ولا أكني كنت مراتك ولا تعرفني .. كل اللي ربطنا كانت ميّ لما اختفت بعدت ولما رِجعِت رجعت .. ما عملتش حساب للعشرة ولا للحب اللي كنت واهمني بيه .. يمكن ربنا ابتلاني بفراق ميّ عشان اكتشف حقيقتك .. أنت أسست حياة جديدة مع منال وجبت منها بنت .. ربنا يخليهالكوا
نظر إليها غاضباً: يعني بترفضيني يا حنان؟
أومأت بثقة: أيوه
اتهمها: عشان الدكتور اللي ساكن قصادك مش كدا ؟
تعجبت من مقصده فلم يحدث بينها وبين الطبيب أي إحتكاك يدل على أن هناك أكثر من الجيرة يجمع بينهما، أجابته محاولة إمتصاص غضبه: لا مش عشان حد .. بص يا خليل .. بعد ما أنت سبتني ف وقت لسه ما كنتش فوقت فيه من صدمتي بفقدان بنتي .. أنهرت .. بس لما فوقت لنفسي أخدت عليها عهد إن أيامي اللي جايه هتبقى عشان ألاقي بنتي وأيامي بعد أما ألاقيها هتبقى عشان أربيها وأعوض شوقي ليها، يعني لا أنت أو غيرك هأتجوزه ..
لوى شفتيه هازئاً: يعني قررتي تترهبني ؟
لم تعجبها نبرته لكنها لم تظهر ذلك فأجبته: أحسبها زي ما تحسبها .. بس دا قراري
عاد يستفزها: معقولة هتعيشي من غير جواز ؟
حدقت به تستشف هدفه: وليه لا ؟ .. ما أنا قبل ما أتجوزك كنت عايشه .. وبعد ما سبتني لحد دلوقتي لسه عايشه .. لا نقصت حاجه من غيرك ولا زدت حاجه بيك
عبر عن سخطه: طب وأما أنا وجودي زي عدمه ف حياتك كنتي إتجوزتيني ليه ؟
ابتسمت بثقة: عشان أجيب ميّ .. تقدر تقول قدر
رد بحدة: يعني ف رأيك الراجل مالوش لازمة .. وإن حياتك كاملة من غيره مش كدا ؟؟
إن ضيق أفقه لشديد فكيف لم ترَ ذلك قبلاً .. أجابته: لا أنا ما قولتش كدا .. بس عدم وجوده ف حياتي مش هيخليها معضلة .. هيصعبها شوية لكن مش هيدمرها .. وزي ما فيه بنات عايشين من غير أزواج فيه رجاله عايشين من غير زوجات ..
رجعت نبرة الاستهزاء إلى صوته: طب ما دام حضرتك تقدري تعيشي لوحدك .. والراجل يقدر يعيش لوحده .. كنا بنتجوز ليه .. ولا بنحتاج بعض ليه ؟
أجابته كما تجيب على أسئلة ميّ تماماً، هادئة مسيطرة: عشان استمرار الحياة والنوع ما ينقرضش .. دا كمان أمر ربنا إعمار الأرض .. بس فيه اللي ما بتتوفرلوش الفرصة دي فبيعيش لوحده من غير شريك .. الحياة وقتها مش بتبقى سهلة وبردو مش مستحيلة ..
انتبه لكلماتها وأرهف السمع: إزاي ؟
- الراجل ربنا خلقه بصفات معينة سواء جسدية أو نفسية .. الصفات دي بتساعده على التعامل مع الناس بره والشغل وإنه يشيل ويحط .. يستحمل البهدله والمرمطه .. يعني على طول تسمع إنه فلان كان بيشتغل مثلاً عامل في البنا وكان بيشيل طوب لحد ما وصل وبقى عنده شركة أو محل بيبيع أدوات بنا، لكن عمرك ما سمعت عن واحدة ست كانت بتشتغل شيال !
بس ف نفس الوقت الست ليها دورها وماحدش ينكره .. طعم الأكل من إيديها بيبقى ليه مذاق خاص .. لا تقولي شيف ولا نص شيف .. وبالدليل أنت لحد ما بتتجوز بتبقى بتدور على أكل مامتك .. وأنت مسافر بتبقى عايز تدوق الأكل من إيديها .. هو ما أقدرش أنكر إنه فيه رجاله فعلاً ما شاء الله عليهم نفسهم حلو أوي ف الطبخ .. بس مالهومش صبر .. إلا لو كان شغل ومجبر عليه .. وصاحب المطعم أو المطبخ اللي بيشغله كمان بيبقى مجبر عليه غالباً .. لإنه الست أصلاً طفشانه من بيتها بسبب الطبيخ لما تفكر تشتغل هتشتغل ف الطبيخ بردو ؟؟ .. ما أظنش .. هي ليها لمستها الخاصة ف كل حاجه، مش ساعات تدخل شقة تقول دي شقة عازب .. وتدخل نفس الشقة بعد ما صاحبها يتجوز وتشوفها مختلفة تماماً ؟؟
أومأ في صمت فتابعت: دي بقى لمستها كأنثى .. بتدي روح وبهجة .. بدل ما التربيزة منورها الريموت وفوقيه بنطلون ما أتغسلش م العصر الحجري .. تلاقي مفرش وعليه بوبيونيرة .. أو فازة مليانه ورد .. الستارة لونها ماشي مع السجادة .. مش سجادة خضرا على ستارة تركواز .. بغض النظر إنك ممكن تلاقيها موضة اليومين دول عادي .. دا غير تربية الأولاد بقى والصبر على دا ودا والأسئلة اللي مالهاش أخر .. اللي بتبقى محتاجه صبر وطولة بال ..
أخذت نفساً عميقاً قبل المتابعة: الزوج أو الأب .. بيشيل حمل برا ومشاكله .. والأم أو الزوجة بتشيل أحمال جوا .. بس مش يا كله برا يا كله جوا .. اللي بيقولوا الراجل عليه كل حاجه برا والست عليها كل حاجه جوا .. أو اللي يقولوا الراجل عليه نص برا (شغله) ونص جوا (بيته) والست كذلك، يبقى غلطان ومش فاهم حاجه .. هما الإتنين مسئولين عن برا وجوا بنسبة ما ينفعش تتحدد، اللي يقدر يحددها طبيعة الحياة بين الزوجين وصفاتهم .. يعني مثلاً واحدة عندها خادمين .. هيبقى النص اللي جوا طار ؟ .. طب والزوج العاطل إلى حين ميسرة بردو نصه اللي برا طار ؟؟ ...
"وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة" .. بتيجي منين عظمة الست ؟ .. في إنه لما يرجع مخنوق تبعد عنه العيال ومشاكلهم .. الكهربا اللي فاتورتها جايه عالية والزبال اللي ما جاش والواد اللي عايز درس .. وتطرطق ودانها وتسمع مشاكله بدون ما تديه حل .. أو تديه لو قدرت توصل لحاجه .. ساعات اللي برا المشكلة بيقدر يحلها أكتر من اللي جواها .. دا غير التشجيع والتحفيز .. القوة الداخلية اللي بتديهاله .. تحول له السور العالي لمنط صغير يقدر يعديه
نظر إليها محتداً: يعني أنتوا اللي بتعملونا بقى .. مش كدا ؟؟
ابتسمت بهدوء فسنوات تعليمها للأطفال بالمدرسة أكسبتها الجلد: بأقول "رجل عظيم" .. يعني هو أصلاً عظيم بس محتاج كتف تسنده .. أصل لو هو غبي ولا ما عندوش القدرة أنه يعدي عمره ما هيعدي .. أصلها "امرأة عظيمة" أيوه .. لكن مش ساحرة وسوبر ومان يعني ..
شرد بعيداً وتحدث لنفسه ولكن بصوت مرتفع: معنى كدا أنه حياتك كاملة ومرتاحة
زفرت: لا مش كاملة .. ماحدش حياته كاملة .. وإلا ما كانش الواحد أتمنى الجنة –اللي فيها الكمال الحقيقي- لكن لو قصدك الكمال الدنيوي اللي ما أقدرش أسميه كمال بالمعنى الحرفي فيمكن معاك حق .. ما أنكرش إنه حياتي هتبقى صعبة بس فيه ميّ هتصبرني عليها
باغتها بسؤال أعاد عليها الأوجاع: أنا عارف إنك بتحبي الأولاد معقولة هتكفيكي ميّ ؟؟ إنتي كان نفسك ف دستة ع الأقل من حبك فيهم
ابتسمت إبتسامة لم تصل إلى أذنيها شاردة: ربنا يخليلي الأطفال في المدرسة وميّ عندي بالدنيا
تحولت لهجتها للجدية الباردة: واللي أنت ما تعرفوش أنه مابقتش أقدر أخلف تاني
لاح الفزع على ملامحه بقوة كادت تُفجر عروق وجهه: إزاي يعني ؟
كادت أن تطبق على عنقه لتفتك به علّ ذلك يُثلج قلبها: بعد سنة ونص من طلاقنا .. الدكتور قالي أنه فيه ورم على المبايض .. بس كان بيطور بسرعة وكان فيه اشتباه أنه يتحول لورم خبيث .. الدكتور ساعتها اقترح عليا إننا نعمله استئصال .. بس لأنه كان كبير استئصلوه مع المبيض .. ومابقتش أقدر أخلف
زاغت عيونه بعيداً لا يدري ماذا يقول أو يفعل، فهمت سبب ذلك؛ هي تعلم أنه كان يرغب بالأطفال الكثر يحيطونه بعد وفاة أخيه الأصغر في حادث قبل لقاءها به بعدة سنوات وهي لن تستطيع تحقيق أمنيته فأراد التراجع عن عرضه.
لوت شفتيها اشمئزازاً: روح صالح مراتك وخليك مع بنتك هدى وميّ موجودة ف أي وقت تحب تشوفها أهلاً وسهلاً .. هأقوم أجيبلك حاجه تشربها عقبال ما تقعد مع ميّ شوية
نهضت وتركته متجهة إلى المطبخ إثر منادتها لابنتها حتى تُجالس أبيها، وجدت سعدية تقوم بغسل الصحون فهتفت بها مستنكرة: أنا مش قولتلك ما تعمليش حاجه ؟؟ .. ما بتسمعيش الكلام ليه ؟
هزت سعدية كتفيها مكملة عملها: دول طبجين بس يا ست حنان .. يعني مافيهاش تعب .. دي حتى چمايلك مغرجانه .. دي حاچه بسيطة يعني .. مش جد المجام
ربتت حنان على كتفها: معلش تعبتك وخليتك تسيبي عيالك عشان تيجي تقعدي معايا لحد ما يمشي .. هو بصراحة فاجأني أنه جاي ف الطريق وما كنتش عارفه أعمل إيه .. وأنا لوحدي كدا .. تيته -الله يرحمها- وفتون نقلت شقة مع ممرضة زميلتها في المستشفى اللي شغالة فيها
ابتسمت لها سعدية متفهمة: ما چراچش حاچه يا ست حنان .. دي كلها ساعة هيحصل فيها إيه يعني ؟؟
بان الأسى على ملامحها وهي تهزأ دخلها؛ إن تلك الساعة التي تستهين بها قضت على حلم أولادها الكثر وإجبارها على الإكتفاء بميّ، إن ساعة واحدة حرمتها من الأمومة مرة أخرى.
أعدت العصير وخرجت تضعه أمام خليل، كان يلعب مع ابنته بنصف عقل، كرهته لأنانيته بشدة ولولا وجود ميّ كرابط أبدي بينهما لرفضت رؤيته مرة أخرى بما أشعله داخلها من تقزز.
نبهته بنبرة قاسية ترفض النقاش: بعد كدا لما تحب تشوف ميّ أبقى استناها تحت أنزلهالك .. قضوا اليوم سوا برا .. عشان بقيت لوحدي وما يصحش تجيلي هنا
أومأ محافظاً على شروده ليس لديه الرغبة في المناقشة أو إرسال نظرة حنق، تنهدت حنان مترقبة وقت انصرافه على أحر من الجمر.

0 التعليقات:

إرسال تعليق