الفصل السابع

تكتفت بحنق، تستمع مجبرة إلى محاضرة والدها، لقد لقمته سعاد بجدارة كيف يحاضر مثلها، مهاجمًا، متذمرًا، ضائقًا بأفعالها الرعناء.
تمنت أن تعود بالزمن نصف ساعة للخلف فحسب؛ كي تكتفي بإخباره أن الوضع مستقر وعلى أفضل حال، اعتصرت عيونها في لوم داخلي، لِمَ باح لسانها بحقيقة فعلها، وتراجعها عن الحملة وتسليمها لزميل آخر؟.. ألم تتعظ مما لقيته من تقريع على لسان رئيس تحريرها، أفقدته رزانته وتماسكه كما لم تره قبلًا يفقدهما، وجهه أحمر من الغيظ وتصبب العرق فوق جبينه من فرط التوتر، يفكر ويدور كيف يوصل الخبر للممولين.
ليست نادمة ولن تندم، كلما طرق رأسها الشيطان بوساوسه عن عملها -الذي تخلت عنه في منتصف الطريق والناس المحتاجين إليها ضربت بهم عرض الحائط- يزداد غيظها، لقد اجتمع الكل وأتفق على دفعها دفعًا تجاه نبيل، شدة الضغط ولدّ الرغبة الشديدة في الإفلات.
أقبل عليهم شقيقها باسمًا، جذبها من ذراعها يفيقها من شرودها الذي بدأ يأجج غضب الأب، استأذن من والده في أخذها خارجًا محتاجًا إليها في أمر ما.
غمرها شعور بالراحة، حبيبها قد عاد لينقذها من بين براثن العمة وبشائر المخالب لدى والدها، أسرعت تحضر حقيبتها البيضاء الصغيرة التي تتناسب مع فستانها الصيفي.
خرجت برفقته وسارا سويًا، سألته باهتمام عن وجهتهما فأجابها ضاحكًا: ظننت فرحتك بالفرار أنستكِ جهلك بوجهتنا
ضحكت بخفة وغمزته: لا أنكر انغماسي في الفرحة لبرهات، لكن ما دمنا ابتعدنا بشكل كافٍ استطيع الاسترخاء والسؤال
-سنذهب إلى محل ملابس رجالي، أريد شراء عدة قمصان وبذلة من أجل عرس أحد أصدقائي
صاحت في دهشة: أهناك بحار سيتزوج؟.. لا أصدق، لقد ظننتكم جميعًا على نفس الشاكلة، لا للزواج وأهلًا بالسفر والترحال من ميناء لميناء
قهقه من قلبه على الشعار الذي ألصقته بالبحارة منذ ألتحق بها: تعالي معي لتشهدي بنفسك هذا الإنقلاب التاريخي؛ فقد لا يتكرر عما قريب
-سأفكر
اكتفت بهذه الكلمة كتعليق وبعد دقائق وصلا إلى أحد الحوانيت الكبرى، دخلا واستغرقتها المهمة، تنشغل في اختيار الألوان المناسبة والمحبوبة لدى شقيقها وتلائمها مع بعضها، وقد بدأت بالبذلة؛ فهي الأهم حاليًا.
تفحصت أرفف ربطات العنق فيما ذهب شقيقها إلى غرفة القياس يتأكد من ملائمة مقاس وألوان البذلة التي اختارتها غرام له، امتدت يدها إلى ربطة عنق جذبتها بشدة.. لكن يدًا أخرى امتدت معها.
نظرت إلى صاحب اليد الكبيرة التي كست يدها فوق القماش الرفيع ذي الطول، ارتفع أحد حاجبيها عجبًا، لم تتوقع أن تلتقي نبيل مجددًا فما بال لقاءه بمحل الملابس قرب رفّ ربطات العنق.
سحبت يدها بسرعة كأن نارًا قد لمستها، بدى الضيق جليًا على ملامحها مما أوجع قلبه، أنتابته حالة مفاجئة من اليأس، يبدو أن لا أمل لديه في نيلها أو الولوج إلى قلبها؛ فالذي لم يكن بحسبانه أنها تنفر منه بهذه القوة.
-مرحبًا
همستها بعد نحنحة متحشرجة، ردّ عليها بهمس لا إرادي، كان يفكر في الاستدارة والرحيل لكنها جذبت معه أطراف الحديث مما أدهشه: ماذا تفعل هنا؟
ابتسم رغمًا عنه: أشتري ملابس لي، فقد مضى زمن منذ فكرت في شراء شيء، وملابسي بدأت تذوب من كثرة الاستخدام
ابتسمت بخفة: جيد أن ذلك قد خطر على بالك أصلًا
-ها.. ما رأيك في طلتي؟ بهية أليس كذلك؟
قهقهت على غرور شقيقها المصطنع لكنها اعتادت على اهتمامه الشديد بمظهره، استجابت له ومازحته بكلماتها بينما تعينه على ضبط الملابس فتبدو في أحسن صورة.
اقتربت من رفّ الأربطة وسحبت ما تليق ببذلته، غرقت في ربطها وضبطها حول عنقه بينما يتحدث مع الآخر مُرحبًا بلقائه من جديد.
عيون نبيل تعلقت بأصابعها المنشغلة بعقد رابطة العنق، تمنى أن تفعل ذلك يومًا من أجله هو، تمازحه بنفس الطريقة عوضًا عن دفعه والهروب، تضحك بأريحية وحرية دون قيود.. طالما ذلك لم يكن من نصيبه فهو ما زال غير جدير بها على الإطلاق، وأمامه طريق معربد طويل الأمد.
***
سار في موازة النيل، ينظر إلى بريق الشمس فوقه مقارنًا هذا اللمعان بانعكاس نفس الضوء لكن على خصلاتها السوداء، عقدت شعرها القصير كذيل الحصان لكن لقصر بعض الخصلات أفلتت من العقدة مما أضفى عليها لمسة عشوائية محببة.
وجهها ذو الأعين البراقة على الدوام، فكرّ مرات عدة في سبب بريقهما الدائم، أقل إنعكاس للضوء مهما بهت يظهر لمعانهما الخلاب، الحياة فيهما باعثة على الحيوية والأمل، تعطيه دفعة للأمام.
ابتسم لذكرى ثوبها الذي حلّق حولها أثناء الدوران ناحيته ملقية تحية الوداع، أزرق من فوق وأبيض من أسفل برسومات زرقاء ورمادية تكسر بياضه الناصع.
طفلة تمناها امرأة من أجله وحده، هذا كل ما فعله منذ تقدم لخطبتها قبل عام، وما حاول الوصول إليه خلال فترة الخطبة القصيرة بينهما.
جلس على أحد المقاعد المصفوفة يمد بصره فوق بساط المياه المتلألئ، حاول الحفاظ على ما أحبه فيها، انطلاقها لكن بحساب دون جموح مبالغ، طفوليتها أحيانًا يسيرة، عقلها ونمط تفكيرها، لم يفكر يومًا في تشكيلها على غير ما هي عليه.
يوم دخلت عليه في غرفة الصالون بعدما ظل ينتظرها لأكثر من ساعة رغم علمها بموعد قدومه المعتاد، شعرها قد قصّ وبتر طوله الهفاف ليصبح منتفًا كريش الفراخ المريضة، لجم غضبه وكبح غيظه من فعلتها، شعر منها الندم على ذلك من نظراتها المتحدية المصوبة جهته بشكل مبالغ فيه، علم أنها طريقة ما تختبره بها أو تدفعه بها، وقتها اكتفى بالصمت، لم يعلق على الأمر رغم محاولات العمة جعله يتدخل ويحاول إعادة العقل في رأس ابنة أخيها المتهورة.
احترم هو قرارها، لم ينفعل داخليًا إلا لشعوره بندمها المخبئ بين ثنايا نفسها، لا يبالي إن كانت منتفة الشعر أو صلعاء حتى، يكفيه أنها هي، روحها ما زالت تشتعل كما اعتاد منها.
جلس وتحدث متجاهلًا فعلتها، ابتسم داخليًا وقتها عندما لمح بطرف عينه انقباض كفيها في غيظ، لقد تمنت أن يغضب ويثور، يحاول فرض تحكماته عليها، لكنه أخلف كل ذلك وأظهرها كطفلة أمام نفسها، فالفعلة لم تؤذِ أحدًا سواها.
مدد ساقيه وأرجع رأسه للخلف، محررًا مياه النيل من حدة نظراته وابتلى بها السماء الصافية ببريق شمسها وقت العصر.
أكانت إشارات خفية منها لتجعل الرفض مبررًا، تلقي اللوم على فعل له فتفسخ الخطبة بينهما وتلقي الدبلة في وجهه؟.. أحين فشلت في دفعه بمواقفها تلك لم تجد بدًا من مواجهته بصراحة؟
لكن يظل السؤال دون إجابة.. لِمَ رفضته؟
استغرقه التفكير، يحلل كل لحظة منذ خطبها، يقارن ذلك بما قاله والدها عن مواصفات الرجل الذي ترغبه أن يشاركها حياتها.
اعتصر جبينه بأصابعه الضاغطة عليه بشدة، لم يكن رومانسيًا بشكل واضح أمامها؛ ذلك ليس لفشله تمامًا في الرومانسية، قد يملك منها النذر اليسير على الأقل، لكنه شعر أنها ليست من حقه حتى الآن، مخطوبان نعم لكن مع ذلك يظلان كالغريبان، يحترم وجودها في منزل والدها، وعدم وجود رابط قوي بينهما إلى حد الأريحية في التعبير عن المشاعر –التي يعتبرها نوعًا من الرومانسية-.
ظل عقله ينقله من شيء إلى آخر، يعيد التفكير بهدوء أكثر وعقلانية أكبر، نجح في الوصول إلى عدة أسباب بعدما انلسخ من الموقف كأحد أطرافه ونظر إليه نظرة خارجية كمتفرج أو مشاهد من بعيد.
غمره الغيظ لبحثها عن رجل يشبه والدها في كل شيء، لا ينكر حبه لرؤوف وتآلفه معه لكن أن يعيش المرء مع شخصين بنفس الصفات رغم اختلاف الوظيفة؛ هذا أب وهذا زوج، محض جنون!
أين التجديد؟، أين التنوع؟.. لم يخلقنا الله بشخصيات مختلفة وأنماط تفكير متباينة لنعيش مع أشباه، حاول محازاة تفكيرها؛ فقد يصل إلى أسباب ذلك إن تلبس منطقها.
 العيش مع أمه –رحمها الله- مرتين، الأولى بدورها كأم والآخر كزوجة.. لم يستطع استزاغة الوضع، يحب والدته نعم، لكن أن يعيش معها بدورين؟ لا وألف لا.
تشدق ساخرًا: أما كان أولى أن يتزوج والدته حينها؟
***
استكانت أسفل ذراع خالها بجسد فقد روحه، تجاوزت نبرات الأسف في طيات كلمات خالها وهو يخبرهم عن محاولات زوجته المستميتة بإقناع منير كي يتزوج إحدى الفتيات التي تعرضهم عليه، حاول تبرير موقفها كأم بلغ ابنها عمر الزواج منذ أجل ولم يحصل على أسرة حتى الآن، مثلها كأي أم ترغب في حمل أحفادها، خصوصًا وهو أقرب أولادها إلى قلبها.
تلمزها أمها في غيظ تكبته أمام أخيها لكنه يصل باحتراف إلى ابنتها.
شعرت بالإنهاك فجأة والتعب، انسحبت من الجلسة مقدرة خطوة شقيق أمها في تمهيد ما قد يحدث عاجلًا أم آجلًا.
ثنت ساقيها أسفلها وجلست فوق المقعد والنافذة مفتوحة تسمح لنسمة المغرب بالدخول، تطيب جرحها وتجفف دمعها، ودت أن تحط رحالها فوق إحدى الطيور المحلقة في السماء، تذهب بعيدًا إلى حيث يشاء الله، فقط تتمنى الابتعاد.
فتحت الراديو تسمع ما فيه دون انتباه، فقرة يسردها المذيع يليها أغنية لعبدالوهاب، انتبهت حين بدأت فقرة تناقش أمور عامة، أصغت وقد جذبتها اللكنة اللينة للمذيع، تعكس ثقته بما يقول فنجح في كسب قلوب وعقول المستمعين.
-تميل نفوسنا إلى ما ليس لها، حبًا في التحدي وركضًا خلف الهارب منا، تمتلئ قلوب البعض بالغضب وأحيانًا الجحود حين يفقدون الرجاء في نيل اللاهثين خلفه، ينظرون كالعطشان إلى نصف الكوب الفارغ متجاهلًا النصف العمران.
إذا توقفوا للحظة، ودفعوا رغبتهم الغير مشبعة جانبًا، أعملوا عقولهم بما تتسم به الذات الإلهية بالكرم والخير، وإدراك الله لما هو مناسب لنا، أكثرها توافقًا مع أرواحنا؛ لكانوا استكانوا ورضوا، لو لم يمنع عنهم ما يرغبونه لما اكتشفوا النعم الأخرى المحيطة، سيرتوي إن رضا بما قُسِمَ له، إن العطشان واللهثان نصف الكوب كافٍ لتهدئة عطشه ولو لبرهة.. إن شرب الكمية التي أرادها دفعة واحدة يعود سوءًا وسقمًا على الجسد، وهذا معروف لبدو الصحراء عندما يجدون من هو تائه بين رمالها.
سترتوي وتسقي عطشك، لكن على مهل، رويدًا رويدًا، إذا حصلت على ما تتمناه دفعة واحدة فماذا ستفعل خلال سنين عمرك اللاحقة؟ تجلس مسندًا خدك إلى قبضتيك؟.. ألن تكون الحياة مملة؟ ماسخة الطعم وسيئة المذاق.
هناك موقف مر به أحد أصدقائي، قد يبدو بسيطًا لكنه علمني وعلّم صديقي درسًا بالحياة كلها، كان مسافرًا إلى مسقط رأسه في الشمال، تجاه دمياط، لكنه سهى على الطريق؛ فدار يسارًا حين كان يجب عليه الدورة يمينًا، وأكمل دون أن يشعر بخطأه لكن وقتما أدركه توقف يائسًا مغتاظًا من نفسه، وأفرغ غضبه على زوجته لإنها شغلته بالحديث والجدال حول موقف سبق وقد حدث وليس منه رجاء ثم تسببه في ضياعهم.
قرر في النهاية العروج على أقرب مطعم لتناول الغداء ثم يعود إلى الطريق الصحيح، اقتربوا من محل يبيع الأسماك ويُنضجها لمن شاء، مدح صديقي تلك الوجبة كما لو أنه لم يذق طعامًا من قبل، تفنن في وصفها واستحضر طعمها حتى أجرى ريقنا جميعًا معه اشتهاءًا لها.. وختم حكايته بقوله: لو لم أته لما ذقته بحياتي، حمدًا لله على تلك الغلطة.
موقف صغير، قد لا يتمعن به أحد في العادة، لكنه جعلني اتفكر وأُركب مواقف أكثر تعقيدًا على نفس القالب، حين يخسر المرء وظيفة فيجد إعارة إلى الخارج، وآخر ينهار بيته قد يجد في ذلك فرصة حتى يبتاع يختًا يصبح في مثابة منزل فوق سطح الماء يستخدمه للإبحار أحيانًا.. وغيرها من الأمثلة التي لا تنتهي.
أحمد الله على ما تملكه، وحين تفقد شيئًا تأكد من أنه ليس لك وإلا عاد إليك، ألقي بصرك حولك، ابحث ونقب عما عوضك الله به حتى ولو صغرت النعم بنظرك، كالسمع والصحة والأسرة الهانئة... إلخ.
أَدِمْ الحمد تدم النعمة
ختم المذيع حلقته معلنًا عن آذان المغرب، شردت في تحليل كلماته، إعادة ترديدها داخل رأسها، أفاقت على نداء والدتها من الخارج بعد إغلاق باب الشقة: هيا نادية، لقد نزل خالك وأخذ شقيقك معه للصلاة بالمسجد، تعالي كي نصليها سوية
-حاضر أمي
نهضت في نشاط واتجهت إلى الحمام تتوضأ، نفسها مليئة بالسكينة التي زادت مع أول ملامسة لجبهتها للأرض الصلبة، راحة غمرت كل شظية من روحها مع إنتهاء الصلاة، بسمة ارتسمت على شفتيها لما بقى من اليوم.
***
بحثت بين الجمع الغفير عن وجوه تعرفها، تتعلق بذراع شقيقها الأكبر، كاملة الزينة والجمال، ثوبها اللازوردي حافته العلوية على شكل قلب أحد نصفيه مزين بخرز أبيض صغير، تعبر حمالاته حول رقبته لتتشبث بالجهة الأخرى من القلب. القماش له بريق جميل زاده حسنًا.
ألقت التحية على العروسين وبعض الحضور القلائل الذين تشرفت بمعرفتهم قبلًا، سألها إحسان إن كانت ترغب في شرب شيء، قبلت بابتسامة شاكرة.
تركها مع أحد أصدقائه وزوجته، أتجه إلى مائدة المشروبات بدأ يسكب من الزجاجة إلى الكوب، ابتسم عارفًا بحب شقيقته للكولا.
امتد قدح فارغ بين بصره والكوب الموجود في قبضته، سمع صوتًا لا تشوبه أي لكنات ولا يشك أحد في عروبته بل ومصريته الأصيلة: لو سمحت.. صبَّ لي كأسًا أيضًا
رقي ودلال أنثوي يعرفه كما يعرف أن اسمه مكون من خمسة أحرف بالتمام، اعتصر عيونه المغلقة بشدة، يبتهل داخله أن تكون محض تهيأت، نفخ وتهدلت أكتافه حين عاد الصوت للكلام ضاربًا بابتهالاته عرض الحائط: إذا سمحت؟
جمع شظايا نفسه ووقف بانتصاب، سيواجه ما هرب منه منذ مدة، لم يعد هناك مجالًا سواه وإلا أنتهى في حفرة أعمق وبئر بلا قاع.
-ماذا تريدين؟
حركت القدح الزجاجي يمنة ويسارًا أمام ناظريه، تنظر إليه ببراءة متعجبة غرابة سؤاله: بعض الكولا؟
زفر ملتقطًا الكوب الذي أعده لأخته ثم استدار قائلًا بسأم من لعبتها البائخة: فلتخدمي نفسك بنفسك
أسرعت تدور كي توقف انصرافه بعيدًا عنها، رسمت الأسى على بشرتها شديدة البياض، رمشت أمام عيونها الملونة بحركة تدلل يحفظها عن ظهر قلب.
-ألم تشتق لي كما فعلت أنا؟
-لا، لم أفعل
-كاذب
ثقتها جعلته يتقهقر: ماذا تريدين؟
-رؤيتك، الحديث معك، قلت لك أشتاقك
دمرت أغلب دفاعاته بهمستها المتحشرجة الأخيرة، أدار رأسه جانبًا محاولًا الرد بأقصى درجات البرود واللا مبالاة التي لا يشعرها: لقد أنهيت ما بيننا منذ مدة، اشغلي وقتك بأمور أخرى وسوف تنسين شوقك ذاك
وضعت كفها على أكمام بذته تتلمس بعضًا من ضعفه السابق أمام هشاشتها الغضة: أحبك
-لِمَ تأخرت يا إحسان؟، لقد مللت من الوقوف وحدي وقد انصرف صديقك بسبب بكاء ابنه.. لتأخره عن موعد نومه المعتاد
تلكأت في إتمام جملتها بسبب مرأى الصهباء ذات الجمال البارد كما رأتها، طالعتها بفضول ونفور، لم تستطع تبين سببه رغم جهلها بهوية حمراء الشعر. حدس داخلي أنبأها أن توتر جسد شقيقها وتشنجه نتيجة حديث المرأة إليه.
التفتت إليها ضاحكة: أنتِ شقيقته الصغرى أليس كذلك؟.. غرام على ما أذكر
أبصرت تنقل إحسان فوق ساقيه بتبادل متسارع، لا يكاد يرتكز على واحدة حتى ينتقل فوق الأخرى، همهمت بشرود: بلى
-لقد حدثني إحسان عنكِ كثيرًا، أعرف كل تفاصيل تعلقك به وعدم مسامحتك له على كثرة أسفاره.. لا أستطيع لومك فأنا أشاركك تجرع نفس الكأس المرّ
ضاقت عيون غرام بحدة وعدائية: لكنه لم يذكركِ أمامي قبلًا
راقبت بأعين كالصقر حيود نظرات الصهباء تجاه شقيقها في لوم وعتاب متدلل: يبدو أنه ما زال ضائق الصدر مني
ردّ إحسان أخيرًا لأول مرة منذ انضمت إليهم غرام: أرجوكِ كيتي، لا تدخلي غرام فيما بيننا
-كيتي؟
تجاهلته كيتي ومدت يدها إلى غرام مقدمة نفسها: أدعى كيتي مراد
التقطت كفها في حركة تلقائية وحفاظًا على ماء الوجه، فرغم نفورها منها إلا أن اللياقة تستدعي إخفاء ذلك قدر المستطاع.
اكتفت بكلمات باهتة معها، تبادل أحاديث عامة، شاركتها غرام على الرغم من عدم ارتياحها؛ كي تدع المجال أمام شقيقها يستعيد زمام سيطرته ويتصرف منهيًا الموقف الحالي.
ضاقت عيونها بحدة حين تحركت كيتي مغيرة وقفتها فيما تتابع كلامها، صُمّ سمعها وتوقفت الدنيا، نظرها لا ينزاح عن القلادة المتدلية في رقبة المتحدثة اللبقة الواقفة أمامها، اشتعلت نيرانها وتمتمت باعتذار لا تدرك فحواه، حثت خطاها بعيدًا وبعيدًا، لم تعد تقدر على النظر إلى وجه شقيقها بعد الآن.


0 التعليقات:

إرسال تعليق