الفصل السادس

وقف بموضع يجعله منضمًا للحفل كأنه يراقب سير الأمور من بعيد، في نفس الوقت يستطيع رؤية تطورات الأوضاع بين نادية وخطيبها.. السابق.
خطة متهورة وقد تكون طفولية لكنه متأكد من ثمارها، ستقطع الشك باليقين، وتخرج نادية من ظنونها.. حينها ستخطو في طريق مستقبلها بخطوات أكثر ثقة وأعمق أثرًا.
لم ينتبه لتأففت غرام إلى جواره، تنفث غيظها من نبيل، وتنفخ الغضب من جرأته الزائدة، ترغي وتزيد دون أن تهتم لرستم.
-أجل، لقد بدأ الوضع يزداد إثارة وتشويقًا
-عما تتحدث؟
تغضن جبينها وتتبعت نظراته، أحنقها تصرف منير مع زميلتها لكنها أثارت الصمت وعدم التدخل، شجعها على ذلك تلك اللمعة المتحدية في عيون نادية، تنهدت وبدأت تجر رستم من ساعده خلفها جرًا.
-انتظري.. دعيني أرى نهاية الجولة
-سرّ معي ولا تتلكأ، لم نأتِ لجوالات أيها الصحفي العابث، وراءنا عمل.. والمدير يطالعنا منذ دقائق في غيظ من انزواءنا بعيدًا.. ثم فقرة جمع التبرعات أوشكت على البدء، اذهب لتستعد فأنت من سيتولى أمرها.. أم أنك نسيت؟؟
لحق بها صافعًا الأرض بقدميه، معها حق، متابعة الجولة قد تُفقده وظيفته فما الفائدة التي ستنعاد عليه وقتها غير التشرد؟
***
انشغلت غرام في الحديث مع بضع شخصيات تعرفها، وتتعرف على معارف من تعرفهم فتتوسع دائرة المعارف لديها، تنتقي منهم أصحاب الخير؛ سواء للمنظرة والشكل الإجتماعي أمام الناس.. أو الخيرين بطبعهم، كلاهما سيكون ذا فائدة لها يومًا ما؛ فالحالات تكثر والمتبرعين قلال.
تنأى بنظرها بعيدًا عن الجانب الذي يقف فيه الطبيب، تتهرب من إلتقاء نظراتهم، لقد دعاه المدير من أجل شكره على المجهودات المبذولة في الفترة الماضية، كما أن بعض المساهمين بدعمهم المالي للحملة أصروا على لقاء الطبيب صاحب المبادرة بأنفسهم، بل كامل فريق عمل الذي خُصِصَ له طاولة في الواجهة يتحلقون حولها، متسامرين مستأنسين.
طالعتهم تتأمل مزاحهم واستمتاعهم، من يراهم في هزلهم الآن لا يتخيل  جديتهم المفرطة الأقرب إلى القسوة أحيانًا وقت العمل، الحزم الذي رأته لا يمت بصلة للمرح والدعابات حاليًا.
رغم التشكرات التي أنهالت على رأسها والمديح المبالغ أحيانًا إلا أنها تشعر بطول الطريق وأنها ما زالت البداية فحسب، تمهيدًا للكثير لاحقًا.
تأكد رستم من تمام التجهيزات، سيبدأ في جمع التبرعات بعد الفقرة التالية للرقصة الحالية، عاد إلى الحفل يبحث عن غرام التي ستشاركه المهمة لكن أوقف بحثه عيون منتفخة ومحمرة من فرط البكاء، اقترب منها على عجل وقد نسي كل ما يشغله.
-ماذا حدث نادية؟
تشنجات البكاء حديث التوقف تمنعها من الحديث وتعوق كلماتها عن الخروج، انسكبت دمعات أسيرة بين جفنيها رغمًا عنها، إرتجاج جسدها بين كفيه المتشبثتين بذراعيها زاد قلقه أضعافًا مما غضن جبينه عدو التقطيب.
-منير.. وافق على زواجنا
اعتصر جبينه في تقطيب يحاول فهم الكلمات المغادرة لشفتيها عبر نهنهاتها الضعيفة: أي زواج؟
هتفت بنزق: تلك الحيلة الغبية التي ابتكرتها
تنهد براحة نسبية، فالأمر لا يتعدى موقف عاطفي حار بينها وبين خطيبها، لقد ظن شيئًا قد لحق بعائلتها أو كسرت أصبعًا حقيقيًا هذه المرة.
تراجع خطوة كي تتوضح معالم وجهها أمام ناظريه: أروي لي ما حدث تفصيليًا دون إنقاص
روت وعيونها تفرغ الدموع المتزايدة كلما اقتربت من النهاية التي أحرقتها فيما يقف هو معتصرًا جانبي فمه بيده يمنعها من إفلات الضحكة حتى النهاية، أنتهت من الحكي تسحب منديلًا قماشيًا مثبت في ساعتها الضيقة، تمسح دلائل إنهزامها أمام جبهة منير الضارية، هتف رستم بعنف أجفلها: تبًا لكِ غرام
-لِمَا؟
نشجت في منديلها وعيونها تلمع بسؤالها الطفولي، لا تخفي نبرة الفضول في جنباته.
أجابها مغتاظًا بحق: إنها هادمة اللذات.. لقد أضاعت عليّ أفضل مشهد في الموقف كله
تهدل ذراعها جانب جسدها رويدًا، ووجهها جمد بغتة، تحدق فيه كأنه مخلوق عجيب تراه لأول مرة، لا يمت للبشر بصلة، لم تعرف ماذا تفعل أو كيف تتصرف مع هذا الجلف أمامها، استدارت حولها، دارت ودارت حتى أن الثوب انتشى وشكل هالة مرجانية حولها.
سألها رستم في عجب بينما يتلفت حوله مثلها: عن ماذا تبحثين؟
توقفت متخصرة وجانبها موجه إليه: لا أجد شيئًا
-أخبريني عما تبحثين علّني أساعدك
نظرت إليه كأنها نسيت وجوده، ضاقت عينها فجأة مما أثار حفيظته، أشارت إلى ذراعه المغطى بسترة صيفية خفيفة آمرة: مُدّ يدك!
نظر إليها ببلاهة، يتأكد من صحة سمعه، أعادت جملتها ذات الكلمتين الموجزتين بهدوء استغربه أكثر من الكلام نفسه لكنه انصاع في النهاية ومدّ يده.
ألتقطتها كجائع وضع أمامه وليمة في أول يوم برمضان، نشبت أسنانها في لحم ذراعه بعدما رفعت الأكمام قليلًا وقد ساعد قميصه ذا الأكمام القصيرة الذي لا يتجاوز نصف ذراعه من أداء مهمتها على أكمل وجه، قفز في مكانه متنقلًا فوق ساقيه على التوالي، يحاول سحب ذراعه دون جدوى، أطلق صرخة مكتومة لم يكن ليستطيع إفلاتها إلا لإدراكه بعدهم النسبي عن الأسماع وقد انغمس الحضور في الرقص والموسيقى فيما انغمست نادية في ذراعه.
استطاع دفعها بعيدًا أخيرًا: يكفي يكفي، أنسيتي أنها ذراعي التي في فمك وليس فخذ عجل مشوي!
تفلت جانبًا مذاق جلده وابتسمت في إنتصار بينما يغمرها شعور وافر بالراحة: تستحق.. لم استفد منك سوى زيادة الطين بلة
انشغلت يديه بتدليك مكان العض وشفتيه في نفث الهواء تهدئ الحرارة المنبعثة من ذراعه: أنت غبية حقًا.. ألم نتفق على لعب تلك اللعبة من أجل التأكد من حقيقة مشاعره؟.. في رأيك من يدعس فوق قلبه من أجل راحة من يحب، يتركه حرًا من قفص حبه ليختار القفص الأكثر ملائمة.. متملكًا أم عاشقًا؟
فغرت فاهها: أتقصد...
تأفف: وماذا تظنين؟، لقد ضغطي عليه بجرعة زائدة لم يتحملها فنفر، ليس ذنبي إنجراف أنوثتك المحرومة وراء ملذاتها.. تخطئين أنتِ وأنال أنا اللوم.. والعض
أضاف الكلمة الأخيرة ناظرًا إلى ذراعه بأسى، يكاد يبكي بما حل في ذراعه، تركها مستديرًا إلى حيث يجب أن يهتم بعمله وترك البائسة خلفه في حالة أقرب إلى الإنهيار، تنعى طمعها في ردود أفعال إضافية من حبيبها في وقت كان يجب أن تكتفي فيه بالنذر اليسير.
مرّ بجوار منير المنزوي عن الجمع قليلًا؛ ليستطيع نفث دخان غليونه دون إزعاج الآخرين، توقف وهمس له ضاغطًا على مكان العضة بكف يده الأخرى.
-ليس هناك من داعٍ لتخبر والدتها بالأمر؛ فقد صرفتُ نظر عن الموضوع للأبد
حدق فيه منير بشك فرفع الآخر ذراعه أمام ناظري المتربص به مظهرًا أثر العضة الواضح: وصلني الرد لقرون قادمة.. كان الله في عونك يا منير يا مسكين
قال جملته الأخيرة بصوت أخفض وتيرة بعدما استدار مكملًا طريقه إلى المنصة ليعلن بدأ المزاد الخيري المُدار من قِبَل رئيس القسم الإجتماعي بالمجلة يعقبه جمع التبرعات المسئول هو عنه.
***
جلستا متجاورتين فوق المقعد الخلفي لسيارة الأجرة، جاورتهما إحدى الزميلات في الجريدة حيث السائق زوجها، والمقعد الأمامي احتله رئيس قسمهم المباشر.
مالت نادية قليلًا إلى الأمام تدفع غرام الجالسة جوار الباب للخلف؛ كي تتبين الرؤية أمامها، منخرطة في الضحك المخفي خلف كفها الصغير.
لكزتها غرام الباسمة قليلًا حتى تجلس باعتدال: يكفي نادية، لقد رأيته وكفى.. رغم ذلك لا أعلم ما الغريب في فعله؟
ألقت نظرة عابرة يمينها فرأته يتلاعب بدراجته فوق جانبي الطريق الخالي، يتصرف بصبيانية لا تتلائم مع حلته الرسمية، فبدا في غير موضعه.
حمدت غرام ربها سرًا بينما تترجل من السيارة فور توقفها أمام بوابة عمارتها، ودعت الجميع ولوحت لرستم شاكرة، فانتهز الفرصة لكي يغيظها كعادته:
-أخبري العمة سعاد إني متوقف في الأسفل حتى لا تصفعك على مؤخرتك عقابًا للتأخر
أشاحت في وجهه ودخلت من الباب بتجاهل لما قاله، بما تجيب وعمتها قد أوصت هذا الـ رستم على العناية بها وإيصالها بنفسه كي يطمئن بالها، لا تعلم أنها التي تعلمه كيف يفعل أغلب الأعمال، منها حسن التصرف.
أكمل البقية رحلة الإيصال والتسليم، فتم توصيل نادية والتف بعدها رستم عند أول دوران وتركهم عائدًا إلى منزله الذي يسبق بيت غرام بشارعين تقريبًا، واجب كان يتحتم عليه تأديته، كما أخذ الفتاتين من بيتهما تأكد من عودتهما.
***
أرخى عضلات رقبته للخلف، التقت عيونه بالنجوم اللامعة في السماء، من حيث لا يدري تشكلت صورتها حول نجمتين، تلألأهما احتل منتصف بؤبؤيها، وابتسامتها الواسعة تسربت إلى شفتيه كأنهما تتحديانه القدرة على المنافسة.
فجأة انمحت تلك البسمة واختفى ضياؤها كما لو كان سرابًا، وجهها بصورته المغايرة التي لم يرها قبلًا سوى في ذاك الظرف اتضحت أمامه، وجه معالمه تنبض بالكره والمقط، جبين متغضن كأنه لم يجبل سوى على ذلك.
اتهاماتها وسخريتها الأخيرة منه عادت تتردد في أصداء عقله، صهباء بأعين زرقاء كلون البحر، جميلة وممشوقة القوام، ذات مهنة ومنصب مرموق، لما قد تنظر إلى شاب مثله، من جنسية عربية، مستهتر ودائم الأسفار، ملامحه شرقية عادية.. بالتأكيد من أجل مصلحة وإن غرّته نفسه بتبرير مغاير في آونة ما.
-يهودية، لقد وقعت يا إحسان في غرام يهودية حسناء
انتفض من مجلسه لتذكره الحقيقة المرّة، وقف في مكانه ملاحظًا السيارة تتوقف قرب الباب، انحنى يتطلع إلى شقيقته الهابطة من السيارة، تابعها حتى ابتلعتها البناية.
وقف على باب الشرفة ينتظر ولوجها، استقبلتها العمة بتثاؤب لائم على التأخر، ملّت سعاد التحدث مع طيف ابنة أخيها فانسحبت عائدة إلى غرفتها تكمل نومها.
صفرّ إحسان فاستدارت متقدمة منه عوضًا عن الدلوف إلى غرفتها بحثًا عن الراحة بين طيات فراشها، ابتسمت مقبلة وجنتيه ثم تخطت عتبة الشرفة تلحق به حيث النسمة العليلة في ليلة صيفية حارة.
-ألم تنم بعد؟.. ألا يرهقك المرض؟
-وأنتِ.. ألا يرهقك إضاعة صبا الرجل في التصرف كاللصوص والمراهقين الصغار؟
بجبين مقطب تتبعت الموضع الذي تعلقت به نظرات شقيقها، لمحت جسدًا رجوليًا يتخفى وراء بناية على بعد خطوات، نظراته المتطلعة إلى الباب أسفل الشرفة حجبت عنه ملاحظة المراقبة العلوية لخياله المتخفي.
تنهدت زائغة النظرات: امسح ما في بالك عنه، ليس هناك شيء مما تلمح له.. لقد تخطى الموضوع وأنا نسيته
حرك حاجبيه ساخرًا: عنكِ جائز.. أما عنه.. فمستحيل
تأكيده على الكلمة الأخيرة جعلها تعيد بصرها صوب الظل المتخفي، لمحته يهم بالتحرك مرتحلًا، وكزة طرقت قلبها لا تعلم لها سببًا، نفضت رأسها بعناد وتأففت:
-عمتي تلمزني من أجل رستم، وأنت من أجل نبيل.. فليرحمني الله فلا أجد والدي يدلف غدًا إلى المنزل بصحبة خاطب آخر، لما عقلكم لا يفكر بشيء يخصني سوى الزواج؟؟.. أهو كل ما قد يجعل المرأة سعيدة أو حتى ناجحة في نظركم؟؟
-وما ينقصك غيره؟.. أتممتي تعليمك، تحتلين وظيفة محترمة وتحبينها، جميلة في ريعان الشباب، صحتك كالحصان.. لا ينقصك إلا الزوج والأولاد، بيت سعيد تؤسسينه وتحملين لقب أم
رمت جسدها فوق المقعد المبطن الذي كان جسده يحتله قبل قليل متنهدة: لم يأتِ الآون بعد
استند إلى الطاولة الدائرية الصغيرة باسمًا بحنان: ومتى يكون؟
اعتصرت جمجمتها عبر تخلل أصابعها داخل ثنايا شعرها الحر: لا أدري.. فقط عندما يحلّ
ربت فوق وجنتها بعدما ألقت رأسها على فخذه المائل من استناده إلى الطاولة، طمأنها بلمسته الحانية التي تعودت على فقدانها من الأم أولًا لحقها إحسان بغيابه المستمر لفترات طويلة.
فتحت عيونها على إتساعها وسألته بإهتمام صادق: ألا تريد إخباري عن سبب العودة المفاجئة؟
ابتسم بشرود: ليس الآن، حينما أكون مستعدًا سأخبرك بالتأكيد
-أول شخص؟
نظر إلى سبابتها المرفوعة في وجهه بتوعد شقيّ، قهقه قابضًا على أصبعها داخل كفه بأكلمه: أكيد
وقفت على قدميها دفعة واحدة وقالت بحماسة مفاجئة: إذًا فإلى السرير.. تصبح على خير
قبلته منصرفة إلى حجرتها، ترى الطريق أمامها بصعوبة من فرط الإجهاد، الإستعداد للحفل وتجهيزاته ثم سهرها ليلًا وأرقها مؤخرًا زاد تعبها أطنانًا.
***
-لا، قلتُ لا.. أرددها بالإنجليزية؟.. نوو
زمجرت: أنسيت كم الأعمال التي حملتها عن كاهليك في لمح البصر؟
نفخ من جانب فمه: جميلك أذكره، وفوق رأسي أبد الأبدين.. لكن هذه المهمة لن اتولاها عنكِ مهما حدث، جِدِي لي أخرى وسأحملها داخل عيني
رمش عدة مرات مؤكدًا صدق وعده الأخير، طرقت فوق مكتبه بحدة هفهفت عدة ورقات منثورة فوقه، التفتت إليها نادية مدققة في ملامحها المشدودة: منذ متى تتركين مهمة معلقة في رقبتك دون أن تنهيها بنفسك؟
تجاهلتها غرام وعادت تصب أهتمامها على الآخر مُدعيّ الانشغال في مقال ما: لما ترفض بهذه الحدة؟
ترك قلمه يسقط فوق الطاولة، بدأ يعد أسبابه فوق أصابعه: أولًا مديرنا المباشر لن يقبل، ثانيًا رئيس التحرير سيرفض، ثالثًا الممولين للحملة سينسحبون.. رابعًا والأهم.. "لا للتدخل في أمر يفرق بين إثنين، حبيبين"، هذه قاعدة لا اتخطاها أبدًا ولو على جثتي
احتقن وجهها بالدماء وصاحت فيه: عن أي حبيبين تتحدث، لا تجعل خيالك يجمح
رفع سبابته ووسطاه أمام عينيها: قلتُ إثنين وبعد ذلك حبيبين.. أقصد أيًا منهما، أرجوكِ لا تحرّفي كلامي فهو واضح وضوح الشمس
تركت نادية مقعدها ودنت من رستم تهمس له بصوت مسموع في فضول: لم ظننتها تبحث عن الفراق؟.. أتعلم شيء لا أعرفه؟
أصدر صوتًا ساخرًا معلقًا: الأمر لا يحتاج لإخبار، أي رغبة في ابتعاد أحد الطرفين، الأنثى بالأخص، يعني أن الرجل تجاوز حدود العمل إلى محاولة وصل حبال الود؛ وقتها تهرب المرأة مقتًا للرجل وسماجته، أو تهرب ثقلًا وتعززًا على المبتلى سعادته
دق الهاتف فوق مكتب غرام مما ألجم أي رد كانت ستخرق بها آذان مستفزها الأول، جف حلقها حينما سمعت صوت نبيل يأتيها معرفًا بنفسه عبر الهاتف، تلجلجت وحاولت إخراج كلماتها التالية متماسكة قدر الإمكان: أعتذر منك دكتور نبيل، فقد تولى زميلي الأستاذ رستم الحملة عوضًا عني.. أتمنى أن تواصلا المسير بدوني
صمتت تنتظر رد الفعل المعاكس، ازدردت ريقها مئة مرة، وبللت شفتيها ألفًا، توقعت صياحًا، لومًا، هياجًا، لكن ما قابلها مخالف تمامًا.
بصوت صقيعي: حسن، كما ترغبين.. أيمكنني التحدث إلى الأستاذ رستم إذًا؟
ملامح مكفهر دارت ناحية زميلاها في المكتب المقابل، ذراعها ممدودة مشيرة إلى رغبة الآخر في التحدث معه، نهض رستم وعيونه لا تتزحزح عن وجهها، ألتقط السماعة وتحدث مع نبيل.
فقدت غرام صلتها بالواقع، تراجعت حتى جلست فوق مقعدها وعيونها شاردة، نظرات رستم ما انفكت تتعقب ردة فعلها، ونادية فغرت فاهها متعجبة من حال صديقتها المنقلب.
أغلق السماعة فسألته بصوت ميت فاقد للحياة: ماذا أراد؟
-لقد اتصل يخبرك أنه سيتأخر في المجيء حسب موعدكما لكن حينما أخبرتيه أنكِ تركت الأمر لي قرر أن نلتقي في أحد المقاهي مساء؛ يكون قد تفرغ بشكل كامل... على عكس إرتباطه بساعات محددة مع.. فتاة
تجاوز غضبها المعلن بوضوح على معالم وجهها والتفت مستقبلًا الساعي الذي حضر حاملًا بريد صندوق المشكلات الإجتماعية التي يتشارك ثلاثتهم في عرضها وحل أغلبها، متجاوزين عن المكرر منها في الأعداد السابقة للجريدة.
عقبّ منشغلًا في تقسيم البريد إلى ثلاثة أكوام: أرجو أن تكوني على استعداد لما هو آتٍ.. أولها رد فعل رئيس تحريرنا
عضت نادية شفتيها متوجسة: الله الستار.. سيحدث قصف جوي عما قريب إذًا
رد عليها رستم بهزة من كتفيه، فيما الأخرى بعالم آخر وأفكار بعيدة كل البعد عما يدور حولها؛ فقد كان آخر ما يشغلها هو تعليق رئيسها.


0 التعليقات:

إرسال تعليق