الفصل الخامس



جلست على المقعد الوثير لغرفة المعيشة تتطلع إلى وجه أخيها المصفر من شدة المرض، تتأمل حاله الذابل على غير العادة، شعره المشعث وعدم اهتمامه بشكله الذي دائمًا ما أرّقه مما جعلها تشك في سر عودته.
اقتربت العمة تحمل صينية تحتوي صحنًا من الشوربة الساخنة وكوب ماء بجوارهما رغيف خبز صلب إن أراد غمسه في الشوربة.
وضعتها على فخذيه وبدأت تستعد لإطعامه: سيكون شفاءك من المرض بسببها، غدًا تقول عمتي سعاد قالت
ابتسم مجاملًا عمته: سلمت يمينك، يكفيني أنها من صنع يديكِ لأكلها وإن كان موتي بسببها
شهقت وتفلت في صدرها بينما تكور وجهها غضبًا ورعبًا: بَعُدَ الشر عنك، الله يشفيك ويعافيك يا ابن أخي الحبيب
جذبت غرام عمتها كي تقف وبدأت تصرفها: رجاءًا عمتي، تأكدي أن والدي تناول دواءه، أخشى على صحته أن تسوء مجددًا
-أتصرفيني يا فتاة؟
كتمت ضحكتها من منظر عيون سعاد الضيقة والتي ترمقها من أطرافها بغيظ طفولي، أسرعت تطبع قبلة قوية على خدها الممتلئ: سأنفرد بشقيقي قليلًا فقط
أضافت مدعية الغيرة: لقد غمرتيه بالدلال قبل سفري وحين عدت لم يختلف الأمر.. بالكاد تتركينه لحظات من ثم تعودين للرباض إلى جواره، لم أركِ يومًا تفعلين مثل هذا معي!
صفعتها العمة على مؤخرة رأسها: طفلة، أنتِ تسكنين معي، أمام ناظري طوال النهار، أما هو.. فيا مهجة قلبي بالكاد نراه في العام مرة أو إثنتين
كأن العمة تذكرت شيئًا فدارت جهة ابن أخيها ورفعت سبابتها في وجهه محذرة: إياك والتفكير في السفر من جديد، ستستقر هنا وكفى بحرًا، لقد شبع منك.. ولا استبعد لفظه لك إلينا أخيرًا
ذكرت غرام عمتها بدواء رؤوف فانصرفت مكملة تحذيراتها وصوتها يتصاعد كي تتأكد من وصوله إليهما.
جلست بجوار شقيقها وأمسكت بالملعقة تطعمه، فجسده ما زال واهنًا لا يقدر على التحكم في إمساك الملعقة باتزان.
لامها: أأعجبك الوضع الآن بعدما اتقدت سعاد عليّ؟
أطلقت لضحكتها العنان بينما تدس الملعقة المعدنية بين شفتيه: تستحق هذا وأكثر؛ فلولا مرضك لما مكثت حتى عودتنا أيها الخائن
-وماذا عنكِ يا صحفية يا مبجلة؟.. لقد سافرتي يوم وصولي، لم تنتظري حتى لتطمئني على حالي
-أنت أتيت بلا سابق إنذار، السفر كان معدًا ولن أخذل الناس بسببك ثم تعود لتركي خلفك والعودة إلى سفينتك من جديد
غمزته: ألا يشبع غرورك الذكوري ذاك أن عمتي سعاد ألقت حقائبها داخل الشقة ورفضت إتمام الإتفاق والذهاب معنا لأجلك فقط؟.. طامع أنت يا إحسان رؤوف عبدالقدوس، تحب جمع الجميع حولك والشعور بالإنتشاء حينما تكون محور الرعاية والحب
خفت لونه فجأة مما جعلها تقطب: ما بك؟
-لا شيء، متى ستذهبين إلى حفلة الجريدة؟
لم يعجبها تحويل دفة الحديث هكذا، كأنه يتهرب من شيء ما: خلال نصف ساعة سأرتدي ملابسي
باغتته كعادتها حين ترغب في إصطياد سر يخفيه: لما عُدت مبكرًا هذه المرة؟.. لم يمضِ على غيابك سوى ثلاثة أشهر، كنت تأتينا سابقًا كل سبعة أو ثمانية أشهر.. بالتأكيد حدث شيء، لا تكذب.. أعلم أن هناك سرًا
جملتها الأخيرة جمدت لسانه داخل فمه، تنهد بتعب فأشفقت على حاله، مرضه أوهن جسده وذهنه، ليس عدلًا الهجوم عليه في هذه الحالة وقد جُرِدَ من أسلحته، رغم سهولة استجوابه حاليًا إلا أن ذلك ليس من شيمها، نبهته فيما تمسح فمه بالمنديل: لن تفلت مني بسهولة، لنا حديث آخر
حملت الصينية معها إلى المطبخ وتركته يشرد خلفها، يرقب طيفها المتواري خلف أحد الجدران، وجه مبتئس ونفس مظلمة، انزلق يغمض عينيه مطالبًا النوم بالحلول.
***
تم رفع كابس الكهرباء فسطعت الأنوار في أرجاء الحديقة الخضراء، الأزهار متفتحة بألوانها المختلفة المنتشرة فوق السياج النباتي شديد الخضرة يعزل هذه القطعة المزينة بعيدًا عن بقية المحيط الشاسع.
أحبال رفيعة تدلت منها زينة على شكل حلزونات بألوان ربيعية مفرحة تتخللها المصابيح ذات الإضاءة الناعمة، ترتفع فوق الرؤوس بمسافة محسوبة.
انتشرت طاولات دائرية صغيرة في أركان الحديقة، مغطاة بمفارش عاجية لامعة، يتوسطها إناء مكتنز يحتوي ثلاث زهرات بدرجات ألوان الزينة، بنفسجي، أصفر وأبيض، مكملة المظهر الأنيق.
في المنتصف.. نُصِبت منصة مربعة كمكان مناسب للرقص، وبرجولة في أحد الزوايا انشغلت الفرقة الموسيقية بإنهاء اللمسات الأخيرة على تدريبها قبل بدء الحفل داخلها.
تقف أعلى السلم بثوبها الزهري المرجاني، يصل إلى منتصف ساقيها، منتفخ بالحاشية الداخلية، تقلص حجم القماش في تنورته نتيجة الثنيات الطولية.
صاح رستم من أسفل وقد وقف ممسكًا السلم بتشنج فيما عيونه مجمدة إلى أعلى يراقبها تضبط الزينة بعدما ضايقها عدم الحرص على وجودها في أفضل صورة: يكفي نادية، إنها ليست عملية حربية، إنه الحفل الخيري السنوي للجريدة.. لِمَ تهتمين بتلك التفاهات؟
وقفت على أطراف أصابعها عبر الجوارب الشفافة حافية القدمين، تحاول زيادة طولها فتصل إلى إحدى ورقات الزينة الحلزونية بعدما التفت حول الحبل.
-لا تقلق.. كدت أنتهـ...
بترت جملتها صائحة بفرح طفولي: لقد ضبطها!
ما كادت تتم جملتها حتى اهتز السلم بفعل حركتها الحماسية وفزع رستم من صراخها المباغت مما أخلَّ بقبضته القوية على جانبي السلم، وقعت فوق زميلها الذي تلقفها بين ذراعيه، نهضت تنفض ثوبها ضاحكة مستمتعة بوجه رستم الحانق، صرخ فيها: حمقاء، كدتي تقتليني رعبًا، ماذا إن فتحتي رأسك أو كسرتي ساقكِ؟
حركت كفها بلا مبالاة: لا تبالغ، لم أكن على علو يسبب لي الأذى إلى تلك الدرجة
أحكم إغلاق فمه ورفع سبابته في وجهها: إنكِ طفلة شقية لذلك ليس لكِ عندي أي شيكولاته مما أحضرتها خصيصًا من أجلك، سأكلها عوضًا عنكِ
ارتجت مقلاتيها مع تحرك لوح الشيكولاته يمينًا ويسارًا كحركة بندول الساعة، داعب لسانها عفويًا شفتيها يعبر عن اشتهائه لما تراه الأعين.
مدت يدها تحاول إلتقاطها منه، ضحك ساخرًا من محاولاتها الواهية بينما يبعدها عن متناول كفيها، تارة خلف ظهره وأخرى إلى أعلى.
-المدير يبحث عنك رستم
أومأ إلى غرام فيما تشبثت نادية بلوح الشيكولاته أخيرًا باشتياق ووله، بدأت في نزع الغلاف الورقي تلتهم محتواه بشهية فيما دنت منها صديقتها هامسة: ألا تظنين أنكِ بالغت قليلًا؟
دفعت ما قضمته من القالب جانبًا في فمها كي تستطيع السؤال: ماذا تقصدين؟
-ألم تقولي أن الأمر أنتهى؟.. ما جدوى تلك التصرفات النسائية إذًا؟
نفخت نادية بضيق متوقفة عن تناول حلواها المفضلة: توقفي عن استخدام الألغاز خلال حديثك، ما الأمر؟
تنحت غرام قليلًا تسمح للرؤية بأن تتوضح أمام أعين صديقتها، شحب وجه نادية بإدراك قبل أن تتمالك نفسها، أدارت ظهرها للنظرات المحدقة في تفاصيلها الدقيقة، عادت تمضغ الحلوى متظاهرة بعدما الإهتمام: لم أره قبل الآن، ماذا به؟
ضيقت غرام عيونها تراقب صديقتها لتكتشف صدق جهلها بوجود خطيبها السابق ومراقبته لها: لقد أتى قبل قليل بصحبة رئيس التحرير، تعلمين أنه في منزلة ابنه وقد دعاه بوجه خاص الليلة
هزت كتفيها مكورة الورقة الفارغة: إذًا هل أنهيتي وضع الأرقام فوق المقاعد؟.. سيساعدنا ذلك أثناء المزاد الخيري
-لا تقلقي، لقد أتممت على كل شيء أيضًا
-رائع، سأذهب إذًا إلى دورة المياه؛ فالشيكولاته كانت شبه سائلة وقد لوثت أصابعي
راقبت مراقبة منير لصديقتها، شعرت بالشفقة تجاهه، حاله غير ما كان، رأته مرات معدودة وحديثها معه لم يتجاوز بضعة كلمات أغلبها مجاملة جوفاء إلا أنها تشعر بتغير سيء في حاله، شروده حين أشار رئيس التحرير إلى وجودها للمرة الرابعة على التوالي، عقله التائه، يركز برهة ويضيع دقائق.
توجهت إلى الفرقة الموسيقية تتأكد من تنفيذ جلّ طلباتهم قبل أن تلحق بنادية لتتيقن من كمال مظهرها لهذه الليلة الطويلة.
***
وقف في شرفة المنزل كما اعتاد أن يفعل مع شباك غرفته، يتونس بالأناس القلائل السائرين في الطرقات عودة من مشاغلهم أو ذهابهم إلى مشاغل جديدة.
شعر بالضيق لعدم قدرته على البوح عما يعتمر داخله لأبيه، يبثه همومه علّه يجد لها منفذًا.
دائمًا يغبط قدرة غرام في جمع التوازن بين الإفصاح وإراحة النفس من ثقلها فيما على الكفة الأخرى تفعل ما تشاء وتستطيع التفكير في حلول أخرى دون تأثر واضح بما قيل وإن كان يؤخذ في الحسبان.
على العكس تمامًا يتخبط هو، ليست لديه ملكة البوح، يحاول ويقاوم لكن لسانه معقود داخل حلقه يرفض الحراك.
تنهد ملتقطًا كوب الليمون الساخن يُدنيه من شفتيه ويتذوق طعمه المحلى بالعسل الأبيض، دلال العمة ومزاحه معها يخفف عنه ويخرجه من دائرة تفكيره إلى حد ما، برهة من الزمن تحوي الراحة الأكبر.
لولا مرضه المباغت على حين غرة لكان الآن في غياهب البحر، يتنقل من ميناء إلى آخر وصدره يزداد ضيقًا، كل المدن التي زارها وعلى إتساعها لم تكن لتسبب له راحة وجوده بين أسرته الصغيرة.
استند بكوعيه على حاجز الشرفة وقد انحنى جسده كاشفًا الشارع السفلي كله أمام ناظريه، لقد انغمس في حياته الخاصة ففاته الكثير، ترك خلفه أب مريض وعمة تكاد تُجن من إحساسها بالمسئولية الزائدة على أكتافها، يدرك راحتها من تواجده فقط في المنزل حتى وإن لم يقدم أي معونة، في نظرها رؤوف أجبن من مسئولية البيت ومرضه زاد نطاق حمايتها حوله، غرام مهما ترقت أو شغلت من مناصب ستظل في نظر سعاد مجرد "فتاة" ولن تطمئن لها أبدًا حتى تستقر في منزل زوجها.
هبط بجبينه فوق الحاجز المعدني مؤنبًا نفسه: انشغلت بحياتك يا إحسان بكل أنانية ولم تأخذ بالحسبان عائلة خلفتها وراءك.
أطلق ضحكة ساخرة صغيرة، خرجت من أعماق حنجرته المتألمة: ويا ليتك بنيت شيئًا يستحق، لقد أنتهى الأمر بالغرق في مشاكل على جميع المستويات
***
تلهت بالأزهار تداعبها بأصابعها الرقيقة مثلها، تولي ظهرها للحفل وإنشغال المدير باستقبال المدعوين من شتى المجالات والمراكز، تشعر بالخرق حين تقابل عيونه المترصدة.
-يكفيكِ عبثًا يا طفلة، لقد أتى مبكرًا بحجة المشاغل مع رئيس التحرير، متعللًا بأمور هامة تخص إعلانات الشركة التي يعمل بها المعروضة فوق صفحات جريدتنا، لكن عيونه تُكذِب كل ذلك بملاحقتها لكِ أينما حللتِ، لسان ينطق بشيء وعقل منشغل بامرأة فاتنة تتهادى أمامه في غيظ
همسه هسهس جوار أذنيها محركًا الخصلة المنفلتة من تسريحتها المعقوصة بإتقان، أخذت شهيقًا عميقًا ترسم اللامبالاة فوق معالم وجهها.
مقاومًا نوبة تدفعه إلى الضحك صرّح لها: ليتكِ رأيته حين أوشك على تكسير عظام كفي.. أين ذهب عقلي لأمدها إليه من الأساس!!
قطبت ونظرت إليه نظرة جانبية: ماذا تقصد يا رستم؟
انحنى نحوها كأنه يهمس سرًا يخشى على الأذان المحيطة إلتقاطه: إنه يغـــــار
التفتت جهته رقبتها والتمعت عيونها، عاد يقف باستقامة عاقدًا ذراعيه فيما بسمة غامضة قد ظهرت على شفاهه: وأنتِ تحبينه.. فلِمَ الإنفصال؟
تراخت أكتافها مبتئسة: من جهتي فقط، أما من جهته... فلا شيء
هتف مستنكرًا: أيغار رجل ولا يكون عاشقًا؟!
سخرت: حين يعاملك كخادم لديه أو أحد ممتلكاته التي لا يُسمح لأحد غير جنابه بلمسها
-تقصدين أنها غيرة ملكية لا غيرة حب؟
أومأت فاسترسل: أنا أقول غيرة حب وأنتِ تظنينها غيرة تملكية.. كيف نصل إلى الحقيقة بينهما؟
علت الحيرة ملامح وجهها فبدى في عمره الحقيقي الذي لا يتخطى التسعة عشر عامًا، عمر أنضجته المسئولية والإنخراط في سوق العمل، مشاهدة مصائب وأحوال الناس الإجتماعية ثم الكتابة عنها، عمر شاخ قبل أوانه من حب استنزف أركانه.
***
سارت بخطوات هادئة بكعبي حذائها المرتفع الأسود، تضع المنديل في محفظتها المستطيلة، لمحت حذاءًا لامعًا يقف كعقبة في طريقها، ارتفعت نظراتها رويدًا تتأمل البذلة ذات البنطال واسع وسترة مطابقة له في الدرجة الزيتونية، يحجب الصديري بينهما وقد أظهر بداية رابطة العنق الصفراء.
بملامح جامدة حاولت تخطيه لكنه أبى تركها تفلت من بين براثنه، تَحَمَلّ صمتها الذي دائم ثلاثة أيام، ساعة واحدة إضافية.. لن يقبل.
إن كانت طفلة سيجعلها تنضج، ليس لأن كلامه أثار ذوبعة في عقلها وأوشك على تحويل دفة تفكيرها تتهرب منه إلى هذا الحد وتتخذ موقفًا صبيانيًا.
-سوداء
دار عنقها إليه مبهوتًا: عفوًا؟
حرك رأسه لأعلى مشيرًا إليها قائلًا بجمود: أنتِ سوداء
وقفت متحفزة لما هو آتٍ وعقدت ذراعيها بوجه يتوعد رد الضربة أضعافًا: هلا تفضلت بتوضيح كلامك؟
-مغموسة أنتِ في السواد.. ثوب أسود، حذاء وحقيبة سوداء، يتوجهم شعر أسود كالخروب
ابتلع ريقه يدفع مديحه من الهروب عبر شفاهه، فبياض بشرتها المشوب بأشعة الشمس التي داهمتها خلال سفرهم زادها فتنة وخطورة، لكن لن يتراجع عن موقفه أمام صبيانيتها، فكلمات المديح لا تقال إلا لامرأة ناضجة.. تعي كل كلمة تطرق أذنيها، أخفى ضحكة متخيلًا رد فعلها على غزل قد يصدر منه في هذه اللحظة.
تيبست ورسمت الثلجية على وجهها وبثتها في حروفها المنطوقة: هذا لا يخصك إطلاقًا، أسود أو حتى أبيض.. ببساطة ليس من شأنك
مال عليها محمحمًا قرب أذنيها: أظن أن الأبيض يليق بصديقتك الملائكية أكثر لكن دعينا ننظر
تراجع يتأملها في ثوبها الأسود الذي يتجاوز ركبتيها بقليل، ينزل بضيق شامل فوق جسدها مظهرًا نحافة خصرها ورشاقة قوامها، الكتف الأيسر يكمل تتابع قماش الفستان أما الآخر فقد احتلته قماشة شفافة تابعة لما يشبه الشال المرفرف فوق ظهرها كقطعة إضافية للثوب.
بريق الخط المائل من القماش عند عنقها الخالي من القلائد، مكتفية بالتطريز البسيط لحافة ثوبها من الأعلى، لائم الشرارات الصغيرة المتطايرة صوبه من عيونها.
حاول المحافظة على خطته والتمسك بما بدأه، مال ناحيتها مجددًا وهمس: الأحمر المشتعل يلائم مزاجك تمامًا يا ثائرة
ثم تراجع منسحبًا بسرعة قبل أن تعود لرشدها مما قاله، كم ودت أن ينتظر فقعها لعينيه عبر زجاج نظاراته الحمقاء مثله.
استجابت لنداء أحد زملائها واتجهت صوبه، جسدها من الداخل يختض، نظراتها زائغة، كيف لنبيل أن ينظر إليها بكل تلك الوقاحة؟.. ويرى الأحمر أكثر نسبًا؟؟، لقد كان رؤوف يدعوها بملاكه الصغير.. كيف لملاك أن يناسبه اللون الأحمر، الأحمر من بين جميع الألوان!
-ثائرة؟.. سأريك حقًا من هي الثائرة يا نبيل أفندي
***
تنقل ارتكازها من ساقها اليمنى لليسرى والعكس، أصابعها تتلاعب بعقد اللؤلؤ ذي الصفين في توتر واضح، تترقب اقترابه الذي أوشك.
ظنته سيهمس، سيتركها ويغادر المكان بعد نظرة استهانة ولا مبالاة، لكن أن يجذبها من ذراعها ليجرها خلفه أمام الجميع ويختفي بها بعيدًا عن الأنظار في جانب معزول.. لم يكن ضمن توقعاتها.
دفعها لتقف في مواجهته وأصابعه تعتصر ساعدها، عيونها متسعة على أشدها وأنفاسها لاهثة، وجنتيها حمراوتين من الإنفعال، تراقبه بحذر طفل ارتكب إثمًا وينتظر عقابه.
-أحقًا ترغبين في الزواج منه؟
تنافى هدوء صوته وحزم نبرته مع تصريحات وجهه، وجه غاضب يكتم غيظه كثور هائج.
شجعت نفسها داخليًا على المتابعة، لقد اتفقت مع رستم على هذه اللعبة الصغيرة، نحرك الغيرة قليلًا، نزيد اشتعال النار أسفلها؛ فنكتشف إن كان البهار المستخدم قرفة مع التملك أم شطة حارة من الفلفل مع الحب... هكذا أخبرها رستم بخطته.
رفعت كتفيها: وما همك أنت؟
أجابها ساخرًا محررًا ذراعها: أنسيتِ أنكِ ابنة عمتي وحقك عليّ الإهتمام؟
كزت على أسنانها مغتاظة، دخان الحنق يخرج من أذنيها، لم يكن هذا ما أرادته لكن.. فليكن.
-إذًا أليست مسئوليتك يا ابن الخال أن تسأل عنه وتتأكد إذا كان الزوج المناسب لي أم لا؟
أخفى اعتصار كفيه في جيب سرواله الأزرق الغامق: بالطبع، لكن رأي العروس أولًا
لفت خصلاتها الهاربة من عقدة شعرها حول أصبعها في دلال مصطنع: إممممم، لا أدري.. أنت أعلم يا ابن خالي، إن كان مناسبًا فلست أمانع إعطاءه فرصة..
جذبها نحوه وقد فجر غضبه في الكلمات كما وجهه: أتتلاعبين يا نادية؟
أدعت الغباء بينما تهلل فرحًا من الداخل: ما قصدك يا ابن الخال؟
من بين أسنانه محكمة الغلق وعيونه المغمضة تزمر بحنق: كفي عن تكرار نفس الكلمة
رفرفت ببراءة: أي كلمة؟
-ابن الخال يا نادية
تنهدت مدعية الخصام الطفولي: حسن، لا أعلم ما يضايقك فيها.. لكن لا بأس يا... منير
أحاط جانبي وجهها بين كفيه، عيونه السوداء تقابل عيونها الملونة، أنفاسهما تختلط: قولي لا يا نادية، أرفضيه
طار قلبها فوق غيمة صافية بأعالي السموات، يرفرف فرحًا ببادرته الباعثة للآمال، شعرت بحبه في هذه اللحظة كما لم تشعره في حياتها قبلًا، أغمضت عينيها تستمتع بروعة النشوة التي تغمرها، لم تفتحهما حتى تعالى همسه الأجش مجددًا يطالبها بالرفض.
دافع أنثوي طالبها ألا تبل ريقه أو تخفف من قلقه، النشوة التي تشعرها الآن يجب أن تدوم أكثر، ستعوض من عذابها الماضي بقليل من قلقه الحالي.
-لِمَا أرفض؟.. قد يكون زوجًا مناسبًا، حتى أكثر منك.. أتضيع على ابنة عمتك هكذا فرصة؟
ردها جاء عاديًا كأنها لا تهتم بالنار المتأججة داخله والتي تُلهِب شراينه فورانًا، بالإضافة لمنطق حديثها قلب موازين عقله، أحقًا يقدر على تدمير فرصتها في الحصول على الرجل الأكثر ملائمة من أجل أنانيته فحسب؟
لقطات من ضحكها ومرحها خلال الفترة السابقة من الحفلة، قهقهتها ووجهها المضيء حين كانت تمازح زميلها المتقدم لها الآن.. رستم رسم على وجهها البهجة بعفوية لم يرها سوى نادرًا حين كانت خطيبته.
أهو الذي قمع الشمس والهواء عنها حتى ذبلت زهرة ضحكها؟، أجهله في الطريقة الملائمة لمعاملتها وصلت إلى ذلك الدرك السفلي؟
تراجع، أبعدها عنه بهدوء وقبضة حازمة، يتلمس الصبر والتجلد على ما سيفعله، ظل يُذكِر نفسه "هي الأهم.. هي الأهم"، وليس سواه أهم.
-حسن، يا ابنة العمة.. لكِ ما شئتي، سأسأل عنه وأخبرك بكل جديد في الموضوع
أولاها ظهره منصرفًا لكنه أضاف قبل أن يحث خطاه بعيدًا أكثر وأكثر: لا تقلقي من عمتي، سأتولى إيصال الموضوع لها.. مبارك يا ابنة عمتي
قال الجملة الأخيرة بتروي وعلى مهل، بياضها ازداد شحوبه متسمرة في مكانها، لا تستطيع تصديق ما قاله مؤخرًا، بهذه السهولة انسحب؟؟


0 التعليقات:

إرسال تعليق