الفصل الثاني



ركضت في طرقات المشفى بكعبي حذائها السميك، تتلفت حولها بحثًا عن الغرفة التي أخبرتها الممرضة أن والدها يرقد بها.
رأت عمتها المتشحة بالسواد من رأسها لأخمص قدميها تجلس على مقعد بجانب باب الغرفة المقصودة، تخفي وجهها بين كفيها وصوت بكائها يزيد قلبها ارتعابًا.
جلست جوارها بعد فشل ساقيها من حملها أكثر، وضعت كفها الأيمن على كتف عمتها تنبهها إلى وصولها، رفعت العمة عيونها الغارقة في بحر الدموع ليزيد النواح ويعلو صوتها بالإعتذار.
-آسفة يا بنيتي، أنا السبب.. أنا السبب
لم تعرف غرام سبب ما تتفوه به عمتها، والوضع لا يتحمل استفسارات إلا عن صحة والدها، بالكاد فكرت بالسؤال حتى فُتح الباب وخرج الطبيب، وقفت مع عمتها تمسكها وتسندها للوقوف.
تفاجأت بهوية الطبيب لكنها سألته بقلق: ماذا به أبي؟
ابتسم ابتسامته الحلوة الهادئة المعتادة: بخير، لا تقلقي.. إغمائه كان نتيجة الصدمة.. لكن ما تزال لديه عدة رضوض في جسده نتيجة إرتطامه بالسيارة، سيظل معنا يوم أو إثنين لنطمئن عليه ليس أكثر
أخفت سعاد شهقة فرحها خلف كفيها: أحقًا ما تقول يا بني؟
غمزها بحلاوة: ومنذ متى أكذب عليكِ يا عمة؟
-طمأنت قلبي.. الله يطمئن قلبك الأبيض يا حبيبي
-آمين يا عمة، آمين
-هل يمكنني رؤيته؟
نظر إليها الطبيب تاركًا العمة: بالتأكيد لكن ليس طويلًا؛ فهو ما زال بحاجة إلى الراحة خصوصًا مع سنه
أومأت بتفهم، تقدمت إلى باب الغرفة وقبل أن تلج منها نطق الطبيب: غرام
التفتت إليه وحدقت في وجهه باستفهام: سيخرج سليمًا معافى بأمر الله.. لا تجزعي
كلماته نزلت على صدرها كالثلج، زادت طمأنينتها ودخلت فيما تسمع كلماته لعمتها ودعواته بشفاء والدها السريع، واعدًا بأنه سيتابع الحالة ويهتم به، حبًا في ذلك الرجل الطيب قبل أن يكون بحكم الجيرة القديمة.
***
-تبدين أكثر إشراقًا هذا الصباح
ضحكت: وأنتِ أيضًا
غمزتها غرام متابعة دقاتها على الآلة الكاتبة ذات الصوت الصاخب نتيجة قدمها وتهالكها من كثرة الاستعمال خلال الأعوام السابقة: والدي سيخرج اليوم، هذا سببي.. فما هو سببك؟
تنهدت بسعادة وحلقت فوق غيمة الغرام: منير سيزورونا هذا المساء؛ ليحدد مع أمي موعد العرس
صفقت بكفيها الصغيرين وأظافرها المطلية باللون الأحمر الصارخ: سأكون زوجته أخيرًا، وسيجمعني معه منزل واحد.. ما زلت لا أصدق حتى هذه اللحظة
ضحكت غرام وتركت النقر على آلتها الكاتبة، تراجعت في مقعدها ثم عقدت ذراعيها مستديرة جهة اليسار كي تقابل صديقتها: وأين الجديد؟.. إنها النهاية المحتومة لأي خطبة طبيعية
نفخت من جانب فمها: طبيعية قُلتي.. منذ متى وعلاقتي بمنير فيها شيء يمس الطبيعية، شجارنا الدائم وخصامنا المستمر.. كل هذا جعلني أشك لفترة أني واهمة في حبه.. كذلك كلماتك ظلت ترن في رأسي
عضت غرام شفتها السفلى، تشعر بالذنب للبؤس الذي مرت به صديقتها نتيجة استنتاجات قالتها في حالة غضب وغيظ من خنوع نادية المبالغ فيه وتعلقها بشخص قد لا يُكِن لها الحب في النهاية.
نهضت من مكانها ساحبة المرآة من حقيبتها ووقفت خلف نادية بينما تضع المرآة على سطح المكتب مستندة إلى الآلة الكاتبة الخاصة بها.
أشارت إلى إنعكاس نادية في المرآة: انظري وأخبريني من هذا الذي تتاح له فرصة امتلاك قلب مثل هذا الملاك ويرفسه؟؟.. لا يكون إلا غبي أو مختلًا عقليًا
قهقهت نادية حتى أوشكت على الوقوع أرضًا، تركتها غرام مغادرة بابتسامة مرتاحة: سأسلم هذا المقال للرئيس.. لن أغيب يا جميلة
زادت ضحكات نادية صخبًا، وقع نظرها على المرآة من جديد، وجهها أبيض وشعرها كجناح الغراب، عيون ذهبية موشحة بلمسة من العسل تلتمع أحيانًا لتصبح في إطار درجات الزمردي، فم صغير يناسب وجهها المدبب بتحبب فتّان، أنف أفطس، ملامح كلها تتسم بالدقة والصغر، تبعث في نفس الناظر إليها بإيحاءات إلى مدى رقة وهشاشة صاحبتها.
تغضن جبينها حين خطر تساؤل على رأسها المتشكك: أيمكن حقًا لمنير ألا يكون عاشقًا لها؟!
نفضت رأسها وأسرعت تخرج قلم الحمرة من حقيبتها وتعيد ثقله فوق شفتيها الكرزيتين.
***
خرج رؤوف من غرفته في المشفى بعدما أتمت سعاد ضبّ أغراضه في الحقيبة الصغيرة، جبينه متغضن ووجهه محمر من فرط الغيظ بينما تسير إلى جواره بوجه يكتم عصبيته التي أوشكت على الإنقضاض عليه لولا أن مرضه لجمها، ستتحمل حتى يشفى تمامًا ثم سترد له الصاع صاعين، أكل هذا الصراخ والغضب لإنها طلبت إليه الجلوس فوق المقعد المتحرك كي يوصله إلى البوابة دون أن يتعب؟؟... لم تكن تقصد أنه أصبح عالة أو مريضًا مشلولًا لا يقدر على السير بضع خطوات، لكن عقله الضيق صور له ذلك.
-سأذهب لرؤية الدكتور نبيل، يجب أن أتشكره على إهتمامه بي وعنايته التي أغدقها عليّ خلال اليومين المنصرمين
-حسنٌ، لكني سأنتظرك في سيارة الأجرة، تعلم أن جورج ابن أنطوان تبرع بإحضارنا وليس من المناسب جعله ينتظر مطولًا وحده
-معكِ حق، سأنتهي سريعًا وألحق بكِ
استوقف إحدى الممرضات يستفسر منها عن مكان غرفة الطبيب نبيل، تتبع الوصف وذهنه شارد حاقد على ابنته ذات الرأس الصلب، والقياسات الأقرب للخيال لفارسها المغوار.
حين رأى وجه نبيل الباسم وعيونه المليئة بالدفء خلف نظاراته الطبية، تحسر على فقدانها زوج محتمل مثله، لا يعرف كيف طاوعته نفسه على تركها تضيع شابًا مثله من يدها، كان يجب عليه ضربها لأول وآخر مرة، ففرصة إيجادها لشاب كنبيل هو أقرب ما يكون لمواصفات الفارس المرسومة في ذهنها شحيحة.. لكن كيف يقنعها بأنه لا يوجد الأفضل على الإطلاق سوى الله ثم رسوله؟!
قبض كفيه حانقًا، فور رؤيته لنظرات الحب الصادرة من نبيل في إتجاه غرام حينما زارته، كيف كان يستجدي حبها وإهتمامها بنظراته فقط.. وقتها أقسم على أن يزوجها له إن شاءت أو أبت، غبية.. عنيدة.. مغيظة.. تضيع من يحبها في الواقع من أجل شخص هو محض صورة ضمن غياهب الخيال.
صدمه بريق المحبس المحيط ببنصر يمناه، شعر بالأسى عليه وعلى ابنته، كلاهما خاسر وكلاهما غبي؛ فحب شخص لا يعوض في آخر.
طرق الباب ثم دلف فور سماعه الإذن، نبيل بقميصه محلول الأزرار العلوية، مشمرًا عن ساعديه، يجلس باسترخاء بلا حذاء أو حتى جوارب، عيونه مغمضة بإرهاق شديد، ويده تقبض على كوب الشاي دون أن تشعر بسخونته.
تنحنح رؤوف مغلقًا الباب خلفه، هبّ نبيل يمد يمناه للسلام ولسانه يلهث بالترحيب.
نهره الرجل المسن حالما رأه يبدأ في ضبط هندامه وإرتداء حذائه: لا لا، فلتبقى مرتاحًا، يعلم الله متى أنهيت عمليتك الأخيرة ومتى ستبدأ الجديدة ههههه
تنهد نبيل والبسمة المستبشرة لا تنفك تترك وجهه: أأنت تعلم؟.. الجديدة بعد ساعتين على حد علمي
-وفقك الله يا بني، وجزاك أجره
حولّ نبيل مسار الحديث ليتجه به ناحية الرجل الجالس مقابله: تبدو أفضل كثيرًا، حمدًا لله على سلامتك
-نعم، بفضل الله ثم فضلك.. كنت في طريقي إلى الخروج لكنني قررت العروج إليك قبل ذهابي، فشكر صاحب الفضل واجب ومن الأصول
وقع نظر رؤوف على البنصر الأيمن، فكاد السرور يقفز من عيونه، فراغ بنصره دفع لفكرة مجنونة إلى عقله، سينفذها مهما كان، فاقترابه من الموت جعله لا يقيم وزنًا لأي مخلوق، سيتم رسالته قبل أن يأتيه الأجل.
-دائمًا وأبدًا ستظل صاحب أصل وواجب يا عمي
رسم الأب البؤس على ملامحه: يا ليت يا نبيل، يا ليت.. يا ليت ما بدأ في الماضي قد تم؛ لتكون ابني وأنا عمك على حق وليست مجرد كلمات
تنحنح نبيل بحرج وأخذ يدلك عينيه المجهدتين: لا تقل هذا يا عمي.. فأنت عمي في قلبي وعقلي رغم كل شيء
أحمر وجه رؤوف بالخجل من ضغطه على الطبيب المرهق، سأله مباشرة: هل فسخت خطبتك؟
ارتبك لكنه أجاب بهدوء: أجل، في الأمس
-أرجو ألا يضايقك سؤالي عن السبب
هز كتفيه بلا مبالاة حقيقية: لم نتفق، ترغب في إهتمامي الكامل خلال الأربع وعشرين ساعة وأنا لا أقدر على تقديم ذلك لها.. فانفصلنا
واجهه بتحدي فتاك: أليس لغرام دخل ولو ضئيل في تلك النتيجة؟
سعل رشفة الشاي التي شربها ولهج يحاول الإنكار: لا لا يا عمي، الآنسة غرام إنسانة فاضلة.. ليس لها دخل في هذا الشيء
نفخ رؤوف بملل: بالتأكيد هي كذلك، أقصد مشاعرك تجاهها هي السبب
بدأ يدلك وجهه متهربًا من الإجابة ومحاولًا في الوقت نفسه دفع الإجهاد بعيدًا: أنا.. يا..
أسرع الأب يوقفه قائلًا: وأنا لا أرفض ذلك الحب أو أرغمك على تناسيه.. بالأساس ابنتي غرام تستحق قلب أعتى وأشد الرجال وهذا ما أتمناه لها.. كذلك أنت لست بأقل منهم وجدير بطفلتي المحببة
اعتدل نبيل في جلسته وحدق في عيون رؤوف بنظرات ضيقة يحاول سبر أغواره؛ فيصل إلى ما يرغب في قوله قبل عبوره الشفاه، أجاب رؤوف سؤاله الصامت بهزة من رأسه متابعًا: أجل، أرغبك زوجًا لابنتي غرام
***
ظلت الأرملة تحاول إمساك يدي غرام حتى تستطيع تقبيلها، لكن الأخيرة تهربت منها في استحياء، تربت على كتفها بهدوء وتبتسم في وجهها بتقدير، تعلم أن مساعدتها لتلك الأم الوحيدة لستة أبناء أمر ليس باليسير عليها، فبعدما ظنت الأبواب كلها أغلقت في وجهها، فُتح باب ظنت أنه لم يخلق بمفتاح.
طمأنتها من جديد وسلمتها مظروف يحتوي مبلغ شهري ستتقاضاه منذ الآن وصاعدًا بالإضافة إلى علاج رضيعها على نفقة أحد محبي الخير المتابعين للجريدة.
استقرت غرام على مقعدها والبسمة تملئ وجهها وتنيره، تابعتها نادية بابتسامة: أعانكِ الله على مزيد من الخير، ووفقكِ في مساعدة الناس
-آمييين، آمييين يا نادية، لا تعلمين مدى فرحي وراحتي حين استطيع تقديم المساعدة لمثل تلك المرأة، إنهم من المستحقين لكل جهد يبذله المرء، شتان بين حالتها عندما جاءتني قبل أيام وحالتها الآن، سبحان الرزاق الوهاب
-من يراكِ تعملين في القسم الإجتماعي بالجريدة لا يشك أبدًا في معاداتك للجنس الآخر وكرهك له.
نظرت إليها بلوم: أنا لا أكرههم نادية، بل أكره نواقصهم.. أكره انسلاخهم من زي الرجولة الذي خلقوا فيه ليتلبسوا أثواب الدناءة والخسة
وضعت ذراعيها فوق بعضهما على سطح المكتب ومالت إلى الأمام بشهقة مستغربة: أتقولين أن كل من تقدموا لكِ لا يحملون سوى الخسة والدناءة؟.. والدك رجل يا غرام.. لا تنسي
تنهدت: أعلم، ويا ليت كل الرجال أبي
رفعت نادية سبابتها في وجه صديقتها: فلتحذري يا صديقتي.. ليس كل من تقابليهم محل دناءة وخسة.. بل العيب فيكِ، تبحثين عن نسخة من والدك في كل رجل تقابلينه.. فلأخبركِ منذ الآن علّكِ تدركين، والدك له نسخة واحدة فقط.. هي نسخة رؤوف عبدالقدوس
ابتسمت لصديقتها مشفقة: أتمنى أن تدركِ هذه الحقيقة حق الإدراك قبل أن يفوت الأوان يا عدوة الرجال
تأففت: تعودين إلى تلك التسمية من جديد!
تراجعت نادية عن موقفها حين رأت غيظ صديقتها: ههههههه، حسنٌ حسن، يا عدوة الرجال عدا رؤوف عبدالقدوس.. فلتهنئي به يا فتاة.
ضحكت غرام ضاربة كفًا بآخر، صديقتها ذات المزاج الرائق لن ترحمها، لكنها لا تستطيع تجاهل بعض الحقيقة في كلامها وإن كانت تنطوي على مبالغة.
***
-أتطلب يدي لابنتك يا عم رؤوف؟!
كاد حاجبي نبيل يلامسا منبت شعره المسرح على أحد الجانبين وإن كان ببعثرة خفيفة نتيجة التعب، فمه مفتوح على مصرعيه يكاد يهب على قدميه من فرط الصدمة لولا إجهاد ساقيه من كثرة الوقوف.
بكامل هدوئه أجاب: بالضبط كما سمعت وكما فهمت، ألم تسمع بالمثل القائل.. أخطب لابنتك ولا تخطب لابنك؟.. وبما أني خطبت لجميع أبنائي ولم يتبقَ سوى غرام.. فإني اتقدم لك الآن لتتزوجها، ليس انتقاصًا من قدرها، أو شكًا في رجولتك.. لكن لإني متأكد من حبك الشديد لها وولعك بها، على عكس تعنتها وغبائها
دلك جبينه بتعب وقد ارتسم البؤس على ملامحه: لقد تعبت، لم أعد استطيع استيعاب المزيد، عقلي يكاد يهرب من فرط الأفكار التي يحاول فهمها
ابتسم له رؤوف بتفهم: سأبسط لك الأمر وأرويه في إيجاز، لكن ستجيب على سؤالي أولًا
راقب إيماءة نبيل الموافقة قبل أن يسأله: لِمَا رفضتك غرام؟.. كما قالت لك بالضبط، دون نقصان أو زيادة، أتلو عليّ نص كلامها
تهدلت جفونه مرددًا الكلمات التي حفظها عن ظهر قلب من فرط تفكيره فيها، يتمنى الوصول إلى عيب ما وجدته فيه علّه يقدر على تجاوزه فتعود إليه من جديد: حاولت التأقلم معك لكني لم استطع، هناك ما يقف حائلًا بيننا، أفكارك لا تتماشى مع أفكاري، نمط حياتك يختلف.. ليس كما أتمنى أن أجد نمط حياتي يسير عليه، حاولت، أقسم لك، لكني فشلت
تنهيدة صدرت عن الرجلين، فتح نبيل عيونه متقبلًا نظرات المواساة من الرجل الأكبر رغمًا عنه، لقد نقل إليه كلمات ابنته بنفس النبرة وحملت عيونه لما فتحها نفس نظرة الإنكسار والوجع التي تلت قولها، لكن يومها انصرفت مسرعة متحاشية النظر داخل عيونه، فلم تلمح منه سوى ظلًا مغادرًا بلا رجعة.
علّق: لم استطع الاستفسار أكثر، لقد اتعبتها تلك الكلمات المنمقة.. يبدو أنها درستها مطولًا ومجرد رؤيتي حررها من لسانها المدرّب، لم تكن ترغبني كشريك لها.. فليس هناك جدوى من طول الكلام
صمت طال، ونظرة استفهام علت وجه نبيل لما رأى تحديق رؤوف المفاجئ في وجهه، قال الأب بإدراك مصدوم: أتعلم أنها لم تعطِ أدنى فرصة لمن تقدم لها بعدك؟.. كانت ترفضهم من أمام الباب، وتعلن إمتعاضها قبل أن تتفوه عمتها باسم المذكور حتى
استرسل بشرود متزايد وعقل غارق في تحليل ما يقول: كأنها تهرب، أو تشعر أنها لم تعد تملك ما تستطيع إعطاءه
نهض نبيل وجلس في المقعد المواجه لرؤوف يستفسر بجبين مقطب: لا أفهم مقصدك حقًا
-لا يهم، الأهم هو.. أما زلت ترغب في غرام أن تكون زوجتك؟.. أم أحمل عرضي أسفل إبطي وأرحل؟.. القرار لك
دون تفكير هتف بثقة: بالتأكيد أرغب
وقف رؤوف على قدميه وربت على كتف صهره المستقبلي كما جزم داخليًا: إذًا الحديث بيننا لم ينتهِ، بعد غد مساء، سأقابلك في القهوة الرابضة على أول حيّنا، أما تزال تذكرها؟
وقف نبيل رويدًا: بالطبع يا عمي، صحيح أني غادرت الحي منذ عام تقريبًا لكني تربيت فيه منذ صغري، والعشرة لا تهون
غمزه رؤوف مغادرًا: أظنني أعرف سبب تركك له يا.. صهري.. قريبًا
ابتسامة اعتلت وجه نبيل، جعلته يسبح في عالم آخر بينما حثّ رؤوف خطاه، يحاول إيجاد مبررًا ما يتهرّب خلفه من هجمات سعاد عليه وعلى تأخره.
استوقف ممرضة مدعيًا التعب، رفض إصرارها على الذهاب للطبيب كي يفحصه، وأكتفى بأن تنقله إلى الخارج حيث سيارة الأجرة في الإنتظار على مقعد متحرك، ألقى رأسه جانبًا حالما لمح بدن شقيقته السمين ووقفتها المتربصة، أطلق أصواتًا متألمة حين أدرك قربه منها مما جعل غضبها يخمد وتأجج الخوف على شقيقها الوحيد وسندها المتبقي في الدنيا.
***
لم تتمهل حتى تنزع تنورتها المصنوعة من التويد الرمادي أو قميصها الأبيض قبل أن تدخل إلى والدها تطمئن عليه، أكتفت بنزع حذائها مرتفع الكعبين.
فتحت الباب رويدًا حتى تتأكد من استيقاظه، دخلت وأغلقت الباب خلفها دون أن يشعر، تقدمت على مهل حتى ترى ما يخفيه بنومه على أحد جانبيه فيما يديه تعبثان أسفل الوسادة.
-سأخبر عمتي بما رأت عيناي يا والدي المشاغب
انتفض جسده وارتبكت يده في إخفاء ما تحمله، همسها لم يقلل صدمة اكتشاف أحد لما كان يفعل.
التقط أنفاسه وهدأ لمّا أدرك أنها غرام وليس غيرها، جلست إلى جواره على السرير تستبدل القهقهة العالية بابتسامة محصورة: لما تأكل الملبن دون علمها إن كنت ترتعب من اكتشافها للأمر؟
صفعها بخفة على ظهر كفها الرابض فوق ركبتيها: فلتتأدبي يا فتاة.. من الذي يرتعب مِن مَن؟.. هي التي تفقد أعصابها حينما تراني
وصلتهم كلمات سعاد من الخارج قائلة بصوت جهوري: أما تزال مستيقظًا يا رؤوف.. فلتنم يا رجل، عليك الاسترخاء قليلًا.. أترغب في أن أعد لك كوبًا من الأعشاب المضادة للأرق؟
صاح مسرعًا يتلمس طريقًا للنجاة من خلطتها الجهنمية: لا لا لا، اعتبريني نمت يا سعاد الله يأخذك.. أقصد الله يخليكِ
انفجرت غرام في الضحك فيما اخترق صراخ العمة المغتاظ أذنهم بعدما وقفت على باب الغرفة الذي فتحته: أتظنني غبية لأصدق أنك أخطأت في دعائك عليّ.. لك عندي حساب في إزدياد يا رؤوف.. صبرًا
عادت تغلق الباب بشدة رجت أركان الغرفة، بوجه متجمد قال لابنته: أرأيتِ؟.. ألم أقل لكِ أنها تفقد أعصابها حينما تراني
غرقت في عاصفة من الضحك بينما اكتفى رؤوف بابتسامة سعيدة لانشراح قلبها، تمنى لها دوام السعادة والفرح، ألا تغادر الضحكة ثغرها وتظل دائمًا ضيفة خفيفة عليه.
رفعت سبابتها في وجهه: أحذر يا رؤوف أفندي، قد يُلبي الله دعاءك ذات مرة.. فتستيقظ ولا تجد الست سعاد ذات الصوت المجلجل حولك.. وقتها لا تلوم غير نفسك
صاح مشيحًا بوجهه: لا سمح الله، الله يعلم ما في قلبي، ولا يأخذ بمجرد دعوة طفولية من اللسان
ابتسمت بحب لتلك العلاقة العجيبة التي تجمع بين والدها وعمتها، علاقة أخوية من نوع خاص، نوع لم تذقه ولن تفعل مع إخوتها، أضاف بأعين غامضة: وأنتِ.. من في قلبك يا ابنتي؟
ضحكت: ومن غيرك يا مضحك الثغر؟
غامت عيونه في ذكرى بعيدة، عمرها أعوام طويلة: تقولينها كما كانت تُطرب بها أسماعي.. لقب خصتني به ليصبح صفة أحاول المداومة عليها مهما حدث
مرّ بكفه على شعرها القصير وابتسامة محبة تلون ثغره: وأنتِ متى يأتي مُضحك ثغرك؟
تنهدت بملل: أأوصتك عليّ العمة هذا المساء؟
قطب بحنق: ومنذ متى تستطيع سعاد استمالة لساني ليقول لكِ ما لا تقنعكِ هي به؟
هزت كتفيها: لا أعلم، الدنيا متغيرة
أشار إلى جبهتها: ألا يتغير ما في هذا العقل كما تتغير الدنيا؟
هزت رأسها بشدة رافضة، قالت بعناد متشبث بموقفه: لا، وألف لا، لن يتغير في هذا الموضوع بالذات
تنهد بإرهاق: لماذا؟ لماذا يا غرام؟
عيونها تعلقت بعيونه قائلة: لأني لن أقبل بسعادة أقل مما عاشتها أمي معك، لن أتنازل عن رجل في إخلاصك لذكرى زوجته التي ماتت وتركته شابًا..
ضمت جسدها في صدره وقد تكورت أسفل الغطاء بجانبه بينما تضيف ضاحكة: لا أريده أقل جنونًا منك أو بخيلًا في مشاعره أبدًا.. أرغب في أن أحيا به لا معه
مرر أصابعه في شعرها كما كان يفعل في طفولتها؛ كي يساعدها على الاسترخاء والنوم السريع: يبدو أن عمتك كانت على حق هذه المرة
تثاءبت بابتسامة مرحة: فيما بالضبط؟
-إن الأب الذي يتحدث عن ذكريات الحب والغرام لابنته.. يفتح لها أبواب جهنم
ضحكت بصوت خافت تتشبث بدفء صدره وحنان لمساته: لا تقلق يا والدي الحبيب، فأنت قد أغلقتها ولم تفتحها
غطت في النوم فلم تسمع جملته التعقيبية الأخيرة: يجوز، لكني كذلك أغلقت أبواب النعيم التي أتيحت أمامكِ يا طفلتي الحالمة.
***
دون كلمة، تقدم رؤوف الرجل الأصغر سنًا حتى وصلا إلى طاولة مربعة صغيرة تابعة للقهوة لكنها تربض في زاوية هادئة نسبيًا على ناصية الطريق، جلس ففعل مثله الآخر.
دام الصمت بينهما مطولًا حتى وضع أمام كل منهما كوب مشروبه الساخن، نبيل متملم في جلسته، هيئته مزرية، جزم رؤوف أنه ما يزال يرتدي نفس الملابس التي رأه بها آخر مرة في المشفى.. إنه يُجهد نفسه لمساعدة الناس، غبية من تترك رجلًا مثله في هذا الزمن.
-ستنال قلبها.. إن لم تكن قد فعلت قبلًا
همس بالجملة الأخيرة فلم تصل إلى مسامع نبيل، تحفز الشاب وأنار وجهه مرهفًا القلب قبل السمع: كيف يا عمي؟
ضحك الأب بخفة: ستدخل لها بطريقة جديدة، أخرى غير تلك القديمة الباهتة.. أتظن فتاة مثقفة كابنتي غرام تقبل بعريس يتقدم إليها عبر زواج الصالونات ذاك؟.. تكن غبيًا واهمًا
تهدلت أكتافه: وما الحل إذًا؟.. وجدت ذلك أقصر الطرق
رفع سبابته: صحيح، بل وأفضلها، لكن حين تتقدم إليها بكامل إرادتك ليس لأن الخاطبة نصحتك بها!
تناول بعضًا من قهوته قبل أن يتابع: يجب أن تراك غرام خارج إطار إحتماليه إرتباطك الأبدي بها
-لماذا؟.. إذا كان هذا الهدف من الأصل
زفر بحنق: فلتعمل عقلك معي قليلًا، ستتعبني إن استمريت على هذا الحال، وأنا لا أرغب لابنتي بزوج غبي لا يستطيع اصطياد العصافير الطائرة
قبض نبيل على كفه متوسلًا: لا تتخلى عني أرجوك
نبهه: إذًا حفز عقلك للعمل قليلًا
استرسل مرتشفًا من كوب الماء: منظور المرء لأي شخص يختلف باختلاف العلاقة التي ستجمع بينهما؛ فتقبلك للخيانة من زميل في العمل لا تتساوى في قسوتها مع خيانة شخص عزيز كأقرب أصدقائك مثلًا.
صمت برهة ثم أكمل: غرام لم ترك كإنسان، كشخص عادي بل رأتك بمنظور "الزوج المحتمل" مما جعلها تركز على عيوبك أكثر من مميزاتك؛ لتحدد إن كانت تتنافر مع ما وضعته من صفات لشريكها أو تستطيع غض الطرف عنها وتكمل المشوار.. كل ما عليك فعله أن تُخرج نفسك من دائرة الزواج، تتقرب منها كشخص عادي، تتعامل معه بتلقائية، تلهيها بميزاتك عن عيوبك.. فتبدأ بالرضوخ والتغاضي
-لِمَ لمْ ترني منذ البداية بموضوعية؟.. رأت مميزاتي كما عيوبي؟
سخر منه رؤوف بخفة متذاكية: وأجعلك الحب تراها بالموضوعية التي تدعيها؟
أحمر وجه نبيل خجلًا فيما أردف الأب: إن الموضوعية لا نتأخذها في الواقع إلا كهتافات بالية، وحتى لو استخدمناها يكون الاستخدام محصورًا في المواضيع الأقل أهمية وأكثرهم بعدًا عن خط الحماية المرسوم حولنا
تأفف رؤوف بصوت مرتفع: أكره الفلسفة، لما أدخلتني فيها يا ولد، يبدو أنك ستكون مصدر إزعاج لي
ابتسم نبيل برزانة، دفع نظاراته الطبية التي تدلت حتى وصلت أرنبة أنفه دون أن يشعر: لكنك فيلسوف بحق يا عمي، كلامك هذا يفسر لما نحب ما في يد غيرنا حتى نطاله فننقلب عليه لعنًا ومقتًا.. فالشيء من الخارج جميل، كالزوجة الطائعة جميلة الوجه أمام الناس، تجعل الغير يحسدون الزوج على نعمته وحظه الوافر بينما هي في البيت نباحة مهملة النفس.. سليطة اللسان
غمزه عمه: إنها أحد الأوجه يا فيلسوف
-إذًا ما هي خطتك التي ستعينني على الاقتراب من غرام وجعلها تشعر بي؟
-ليس هناك خطة بعينها، لن أُيسر الطريق أمامك أكثر من هذا يا فتى.. فقط أظهر محاسنك وأجعلها تقر عينها فتغض الطرف عن النواقص الأخرى.. صفة حميدة تدفع صفة ذميمة.. بالإضافة إلى رشة من تحقيق أحلام الفتيات
غمزة رافقت الجملة الأخيرة أعقبها ضحك الأب مسترجعًا أيام شبابه حينما كان يجلس متفكرًا في طريقة للوصول إلى قلب محبوبته الوحيدة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق