الفصل الأول



في أواخر الخمسينات..
وقفت العمة في وجه شقيقها، ترفض مغادرته إياها وهروبه إلى غرفته كالمعتاد.. كلما فُتح موضوع ابنته المتمردة ذات الطباع الصعبة؛ ينأى بنفسه في الغرفة ويأبى الكلام، وإن تحدث يثير حنقها وغيظها أضعافًا، كيف لأبٍ ألا يستطيع كبح جماح صغيرته؟، لم ترَ في حياتها رجلًا لا تخشاه ابنته، خصوصًا وأنها ليست الوحيدة ولا حتى الصغرى.
تنهد مغلقًا عينيه بتعب من كثرة الجدال الذي لا يمقط أكثر منه في حياته: فلتدعيها وشأنها يا سعاد، ابنتي واعية.. تدرك عواقب أفعالها
شهقت معترضة وزاد اكتناز ملامح وجهها من فرط الغيظ: أهٍ منك يا رؤوف، ابنتك ستضيع بسبب تساهلك المبالغ هذا، وقتها لا تلومن إلا نفسك
شحب وجهه من ضرر قد يطال ابنته، استغلت شقيقته اللحظة وبدأت تزيد الأمور تعقيدًا وإهتياجًا، تفعل ذلك بحسن نية ورغبة في إفاقة سيطرته كرجل شرقي التي غطاها تراب الإنصياع لرغبات بناته: سيستغل شاب ما تهورها وإنطلاقها الزائد ويكسر فؤادها، أو تتعرض لقطاع الطرق نتيجة تأخرها الزائد عن الحد.. ألم تسمع عن ابنة جارتنا التي خُطفت منذ أيام؟، لقد عادت إلى منزلها جثة هامدة ليتم تكفينها وحملها إلى قبرها المظلم.. أهٍ وألف أهٍ على حرقة القلب، يا وجع قلبي عليكِ يا مسكينة.. كانت أكبر من غرام بعامين فقط، لكن الموت طالها
تمثلت البكاء بطريقة رديئة لكن غابت عن أخيها، عقله في عالم آخر وخوف غير معقول من أي ضرر يمس صغيرته المتبقية في كنفه، رفع يده يضغط على صدره فيما تغضن وجهه بالألم، اقتربت منه سعاد بوجه ملتاع، تشعر بالذنب فقد هولت الأمر لدرجة لم يتحملها الرجل المريض، دخلت تحضر دوائه ثم جلست إلى جواره تتأكد من عودته لطبيعته.
 ***
منتبهة إلى شاشة التلفاز الصغير، صندوق تتوسطه شاشة مستديرة الأطراف، تتابع مسلسلها المفضل المعروض بلونيه الأبيض والأسود، تتسلى في طبق من المسليات المنوعة الموضوع فوق طاولة السفرة الصغيرة، يشاركها رؤوف مستكينًا لسلطتها وإجبارها له على الجلوس ومتابعة المسلسل الأجنبي الذي يروي قصة مصاصين الدماء.
لفظ قشرة اللب الأبيض من فمه عندما مرّ أمام ناظريه منظر جثة مقتولة ملقاة على قارعة الطريق، كز على أسنانه يلعن تلك الجارات اللاتي جعلن أخته تهوى ما يقرفه، يتمنى الوصول إلى سبب حبها البالغ لهذه المشاهد المقززة.
-أهدكِ الله يا امرأة
التفتت إليه سعاد بلا انتباه، تسأله إن قال شيئًا، ابتسم بسماجة يتابع بنظراته كيف دخلت اللبة سليمة وخرجت أشلاء مهشمة، كما سيحدث معه إن ظنت في قوله سوءًا.
أشار للشاشة الصغيرة: إنها امرأة شريرة، كيف ترفض عرضه في تذوق بعض الدماء.. امرأة عجيبة.
مصمصت شفاهها مطلقة صوتًا يشبه الصفير: دعها، في النهاية سترضخ.. غبية، لقد أضاعت على نفسها فرصة ذهبية، لا تدرك مدى اللذة التي فقدتها.
أصفر وجه رؤوف وتراجع في مقعده، أحقًا سمع تلك الكلمات أم أن عقله الجبان اختلقها ليزيد فزعه؟
لا، لا، هذا الأمر قد فاق الحد، بالتأكيد سيأتي اليوم الذي تشرب من دمه حقًا، سعاد لا يقف أمامها شيء إن أرادت التجربة، رحمتك يا رب، أنقذني من مناصرة مصاصي الدماء.
شعر بيدين تحطان على أكتافه وشفاه تلثم رأسه ثم تدنو من عنقه، اتسعت عيونه حتى كادت تخرج من محاجرها، همسة اختراقت أذنيه تكبت ضحكًا وتخفي سخرية: أما زلت تجلس مع عمتي تتابع مسلسلك الغير مفضل بالمرة؟
انتبهت العمة سعاد إلى الجسد الواقف خلف شقيقها الأصغر، أنزلت يديها بتمهل وأفرغت ما فيها داخل الطبق، مصمصت شفاهها وحدقت في وجه ابنة أخيها: عُدتي أخيرًا أيتها الأميرة
استشعرت غرام نبرة الاستهزاء في نبرة عمتها، انتصبت في وقفة مدافعة تُعلن استعدادها التام لأي مواجهة من أي نوع مع عمتها المتسلطة.
-أجل عمتي، لقد عدت
قالت جملتها بينما تسحب كرسيًا من خلف طاولة الطعام الصغيرة، فتجلس مقابل عمتها وجانب والدها، تطلب منه دعمًا غير موضح بالحروف، بدأت تسحب أصابعها من القفاز المخرم ذي اللون الأسود بإهتمام مبالغ فيه، تنصت إلى كلمات عمتها المؤنبة.
-ألا تخجلين من عودتك في تلك الساعة بمفردك؟.. ماذا سيقول الناس عنا؟، الجيران لن يتركوا سمعتنا وشأنها.. سأضطر إلى الاستماع إلى همزهم ولمزهم عليكِ في الغد حينما أذهب إلى منزل خالتك فكيهة، ستأكل وجهي تلك الإمعة؟
رفعت كتفيها بلا مبالاة، وشرعت تسحب الدبابيس المثبتة لقبعتها الدائرية الصغيرة ذات الشبيكة المخرمة كقفازها والتي انسدلت فوق نصف وجهها العلوي، وضعت كلا القفازين والقبعة المكتنزة فوق سطح الطاولة ثم نظرت إلى عمتها بتحدي: إذًا لا تذهبي إلى خالتي فكيهة، دعيها تجد لنفسها طعامًا غير وجهك.
لم يستطع رؤوف لجم ضحكاته فانطلقت بلا رادع، شاركته ابنته ببسمة وعيونها لا تتلحلح عن مناظرة عيون عمتها المليئة بالغيظ، ضربت سعاد سطح الطاولة بشدة أدت إلى تطاير بعض المُسليات وانتشارها فوق الطاولة: قليلة الحياء، تسخرين مني عوضًا عن الاستماع إلى نصائحي؟
اسندت ظهرها إلى الخلف واسترخت عاقدة ذراعيها وحاجبيها برقة: تعلمين أني كنت سأتركك تتحدثين إلى ظلي إن لم أرد بمزاح.. مزاح وليس استهزاء عمتي الحبيبة
تنهدت العمة متراجعة عن موقفها، رسمت الأسى والبأس على وجهها: أهٍ منك يا ابنة أخي
نهضت غرام تلتقط أغراضها من فوق الطاولة وباليد الآخر تمسك فردتي حذائها ذي الكعوب الذي خلعته بمجرد جلوسها قبل لحظات، اتجهت إلى غرفتها هاتفة بمرح: لا تُجهِزي على كل المكسرات يا عمتي، دعي لي البعض لأتذوقه
قبل أن تغلق الباب غمزت أبيها الذي يكبت ضحكه نتيجة نظرة شقيقته المتحفزة والمملؤة بالوعيد إن أطلق لجام ضحكه: وأنت لا تأكل اللب بقشره، واترك لي القليل.. القليل فقط يا لُبَتي المفضلة
انفجرت العمة في الضحك فيما احتقان وجه الأب لم يدم طويلًا وشارك شقيقته في مزاجها المنشرح فجأة.
***
تلوت ذراعيها خلف ظهرها وتقوس عودها في ليونة، تفتح سحاب فستانها الخلفي وتسحبه إلى الأسفل، نزعته عنها بسهولة وسرعة رغم ضيقه وتشبثه بمنحنيات جسدها المغنج.
عقلها يفكر في أفعال عمتها وكلماتها المبالغ فيها، دائمًا ما تنتقد أفعالها حتى وإن حدثت على هواها.. بالصدفة، تمقط في عمتها رغبتها في السيطرة بالمثل الأخرى تكره فيها إصرارها على فعل ما ترغب.
توقفت أمام المرآة تمشط شعرها القصير، بالكاد يتجاوز أذنيها بسنتيمترين فقط، لقد استطال عن العام السابق، حين قصته ليصبح مقصفًا، ضحكت لذكرى وجه عمتها وقتما شاهدت ما فعلته عند مصفف الشعر، لقد ظنتها ستدخل بزينة وجه كاملة وشعر مغناج يتأرجح على أكتافها فتنجح في تعويض طوابير المتقدمين للخطبتها والذين ضيعتهم من يديها.
الصرخة المفزوعة ما تزال ترن في طبلة أذنيها، لم تستطع النوم ليلتها؛ لإنها لم تنجح في الهروب من براثن عمتها، تلومها تارة وتتوسلها التعقل تارات أخرى، ترى فيها جنونًا لم تدركه في أي من بنات جيلها، تلقبها بالمتمردة ذات الرأس اليابس رغم أنها بعيدة كل البعد عن التمرد.
في وجهة نظر سعاد، الفتاة التي ترفض العرسان بلا أسباب محورية.. مجرد تافهة، متدللة بلا جدوى، متمردة على أوامر الله وسنته في خلقه، لا تقبل رؤية الموضوع من وجهة نظرها.. إنها ترغب في شخص بمواصفات خاصة، تناسبها وتقدر على التعايش معها لسنوات دون سأم، مواصفات "خيالية" مبالغ فيها.
***
دخلت غرام إلى مكتبها في الجريدة، ملقية التحية على زملائها حتى دلفت إلى غرفتها المشتركة مع زميلة أخرى، احتلت مكانها خلف المكتب الصغير، تضع حقيبتها جانبًا فيما تتمتم بتحية لظهر زميلتها المستديرة بمقعدها.
أمسكت أوراقها وأقلامها وبدأت تخط أفكارها عليها، يجب أن تُنهي المقال حتى يلحق بالمطبعة ليصدر في العدد القادم من الجريدة.
توقف قلمها عن خربشاته وتسمرت أصابعها، رفعت عيونها رويدًا حتى اتجهت إلى زميلتها، ضاقت نظراتها على كتفيها ذات الإهتزاز الخفيف، نهضت على مهل وبتروي تحاول ألا يصدر كعب حذائها أي صوت، دارت حتى توقفت أمام وجه زميلتها.
-نادية.. ماذا حدث؟
شهقت الأخرى نتيجة المباغتة الغير متوقعة، زاد نحيبها ورمت رأسها على بطن صديقتها الواقفة تنوح وتبكي، ضمتها غرام في محاولة لدعم صامت، أوجع قلبها رؤية صديقتها المرحة على هذا الحال، يبدو أن أمرًا مريعًا قد حدث.
بعد فترة استكانت دموعها داخل مآقيها وانحسر النحيب إلى بضعة حشرجات خافتة، هبطت غرام وقرفصت أمام صديقتها وبابتسامة تعد بالدعم والتفهم سألتها من جديد عما حدث.
-منير غاضب مني، لا يجيب على اتصالاتي، مضى أسبوع منذ سمعت صوته أو رأيت وجهه، لقد تعبت.. صرت تائهة لا أعلم ماذا أفعل، حتى من المخطئ لا أعلمه، كل فترة مشكلة مختلفة، حالتنا لم تعد مستقرة، وأمي تحملني الذنب باستمرار حتى وإن لم يكن خطأي
-ولماذا أنتِ بالذات؟
سخرت: لإنني امرأة، والمرأة بذكائها تستطيع التلاعب بالرجل حقًا.. لكني غبية ولا أقدر على التعامل مع شخص سهل كمنير؛ إذًا فالخطأ خطأي والغباء من نصيبي
تنهدت غرام واقفة، عقدت ذراعيها متسائلة: وما المشكلة هذه المرة أيضًا يا نادية؟
انكست رأسها في خجل: ذهبت مع أخي الأصغر إلى مدرسته كي أحل مشكلة مع المديرة، تعلمين أمي تكره الذهاب إلى مدرسته، تمقط المديرة كذلك بسبب مشاكل بين عائلتيهما قديمًا
التوت شفاه غرام: حسن.. حسن، أين سبب المشكلة؟
-لم أخبره
انحلت عقدة ذراعيها وانتصبت على جانبيها هاتفة: حقًا؟!!
هزة رأس الأخرى المؤكدة أشعلتها غيظًا، تراجعت خطوة حتى تستطيع رؤية صديقتها بشكل أوضح، أحقًا موقف صغير كهذا يتسبب في مقاطعته لها خلال المدة الماضية حتى يوصلها إلى تلك الحالة؟!
-أيحتاج الأمر أن تخبريه؟.. إن المدرسة مقابل منزلك، بالكاد تعبرين الطريق.. ألا يرغب أن تستأذنيه في العبور أيضًا قبل أن تفعليه؟؟
حالة نادية المنهارة جعلتها لا تلتقط السخرية المبطنة في كلمات غرام لها، عادت تبكي وتخبرها أنه حذرها من فعل شيء دون إذنه، لا تغادر المنزل إلا بعد إعلامه وحالما تعود تتصل تطمأنه.
خلال حديث نادية المسترسل عادت غرام إلى مكتبها وجلست خلفه تراقب صديقتها المنصاعة لتحكمات خطيبها، تحكمات لم تستطع تقبلها من عمتها التي ربتها فكيف برجل غريب لا يربطها به سوى كلمة قابلة للكسر في أية لحظة؟
-أمحي دموعك، لقد غرق وجهك في سواد الكحل
أسرعت نادية تمسك حقيبتها التي على شكل صندوق صغير، تبحث داخلها عن المرآة الصغيرة ومنديل تزيل ما أهلعها عن وجهها.
-ماذا ستفعلين الآن؟
سألتها بعدما تراجعت الأخرى في جلستها منتهية من مهمتها الدقيقة، ذبول نادية ظهر أكثر بعدما أزالت قناع مساحيق التجميل السائل، أشفقت عليها وعلى حبها لشخص بتلك الشخصية.
-سأذهب إليه بعد العمل، أحاول استرضائه وجعله يسامحني
صاحت فيه غرام غير مصدقة: ماذا فعلتي من الأساس ليسامحكِ عليه؟.. إن الموضوع أصغر من كل تلك الجلبة التي فعلها
دافعت عنه: إنه يحبني، يخاف عليّ
-أو يتحجج، يختلق المشاكل ليؤكد لكِ أنكما لا تلائمان بعضكما
صرخت مستنكرة: بالتأكيد لا.. منير يحبني كما أحبه
تعابير نادية ولهجتها الرافضة للمناقشة، عيونها المغلقة عن رؤية الحقيقة الجلية، جعلوها تدرك فشل أي محاولة لتفتيح عقل صديقتها، تراجعت والتزمت الصمت، فالتفعل ما ترغب.. هو كأسها ولن يتذوقه غيرها.
***
فتحت باب الشقة بمفتاحها ودلفت على أصوات مهمهمة تطرق أذنيها، قطبت بنعومة مستغربة وجود ضيوف في هذه الساعة، لم تنبهها العمة إلى احتمالية استضافتهم لأحد.
وضعت حقيبتها على الطاولة ذات المرآة المجاورة للباب وتتبعت الأصوات حتى وصلت إلى حجرة الصالون، ابتسمت والفضول يأكلها، عمتها العزيزة لا تفتح تلك الغرفة إلا إن كان الضيوف بأهمية لا يعلى عليها.
طرقت على الباب بخفة ثم دلفت ملقية السلام ورأسها تهتز في تحية حركية، وقفت عمتها بوجه مضيء ترحب بها وتقدمها إلى الضيوف.
-غرام ابنتي.. هذا الأستاذ فتحي يعمل معلمًا ذي شأن في مدرستك القديمة، أليست صدفة جميلة؟
اكتفت غرام بإيماءة صغيرة، تستغرب التفاصيل التي ليس لها داعٍ، أكملت عمتها تقديم الضيوف: وهذه الحاجة أم فتحي، امرأة أصيلة وأم لا يوجد مثلها
ابتسمت الأم باستحياء: الله يخليكِ يا ست سعاد، هذا من أصلك فقط
-لا لا، إنه الحق وليس في الحق مجاملات
تململت غرام في غرفتها كارهة المجاملات التي يعلم الجميع أنها مجاملات رغم ذلك ينكرون أنها تمُت للمجاملات بصلة!
-أما هذا.. فهو الحاج شكري، والد فتحي، موظف قدير في السكة الحديد، لا يغرك وصوله للمعاش فهو يبدو في عمر ابنه إن لم يكن أصغر
اكتفى شكري بابتسامة باردة، رسمية، كحال أغلب الموظفين، فيبدو أن تلك الوظيفة الروتينية تعلمهم الروتين في التعبير والتصرفات كما في العمل.
أفاقت من خيالاتها على جذب عمتها تُجلسها إلى جوارها على الأريكة، نظرة مرت إلى حيث جلس والدها منكمشًا وتعابير غير راضية على وجهه فيما نظراته تحط فوق فتحي تخبره بالرفض لشيء ما.
-غرام.. اسم على مسمى، ليس لإني من ربيتها، لا لا، الجميع يشهد لها على حلاوة المعشر وجمال اللسان.. طيبة ورقيقة وست بيت من الدرجة الأولى، هههه أحيانًا أغار من طعامها عندما ينال إعجاب أخي فيما ينهال على طعامي بالنقص والعيوب
حديث عمتها الأخير جعلها تفهم سبب تواجد هؤلاء عندهم لأول مرة، وأدركت سبب رفض والدها لفتحي المسكين ذي الوجهي المستحي والأصابع المعقودة، تأففت داخليًا من مخططات عمتها الطفولية؛ تظن أنها بتلك الطريقة ستضعها أمام الأمر الواقع ولن تستطيع الفكاك.. أبدًا يا عمة، سترين أني لا ارتدع إلا حين يكون مزاجي في ذلك.
دارت بنظراتها في الغرفة ذات الجدران العاجية والمقاعد المذهبة في أطرافها كما الطاولة ذات السطح الرخامي المنقط، تعطيهم أذن غير مصغية لكنها مستمعة، تقابلت نظراتها مع والدها بوجهه المتجهم، غمزته مع هزة من الرأس تسأله عما به، تغضن جبينه ومال نظره للحظة ناحية العريس، ثم أغلق عيونه وزم شفتيه برفض قاطع، ابتسمت بمرح ورفعت له إبهامها في غفلة من عمتها.
شاركته رأيه، فرغم كلماته القليلة عرفت أن فتحي لا يختلف عن الطابور العريض الذي سبقه، متى ستفهم عمتها نمط تفكيرها فتتوقف عن إحضار نفس العينة من العرسان كل مرة كأنها تتلذذ في إحراج نفسها وإحراج ضيوفها المتقدمين..
-نحن يشرفنا أن تصبح الآنسة غرام ضمن عائلتنا الصغيرة
كتمت غرام ووالدها شهقتهم، أي صغر هذا والرجل لديه ثلاثة عشر ولدًا وبنتًا عدا المتواجد أمامهم؟، سمعت والدها يهمس بخفوت: لو كنت تنجبهم كي تكون فريق كرة لكانوا أقل عددًا من هذا
رغم خفوت همسه إلا أنه وصل مسامع عمتها فوكزته في جنبه بينما كبحت غرام ضحكاتها مرغمة.
شعرت بمجاملات وتهليل عمتها المبطن على وشك الظهور كما أنها ملت من تلك الجلسة التي طالت وهي تتمنى الاسترخاء أسفل غطائها من فرط إجهاد بدنها.
وقفت بحزم ولهجة رسمية ملأت كلماتها: ونحن أيضًا تشرفنا بزيارتكم الجليلة، لكن مع الأسف سنتوقف عند حدود الضيافة، أنتم ضيوف ونحن مضيفون بلا صفات زائدة أخرى
شهقة وضربة على الصدر صدرت من جوارها فيما نهض شكري أفندي يشير لزوجته بالعصا القصيرة المنتهية بشراشيب ودلايات كثيرة حتى تنهض.
-هيا بنا يا أم فتحي، يبدو أنه غير مرحب بنا هنا
وقفت العمة مسرعة تتوسلهم البقاء وتنفي جدية كلمات ابنة شقيقها، وسمتها بالطيش والتهور.. الجهل بالأصول –رغم أنها كانت عنوانه منذ دقائق-، لكن شكري ظل مرفوع الرأس، منتشيًا كديك رومي وحيد وسط الفراخ.
-يستحيل يا ست سعاد، لسنا أغبياء لنخطئ إهانة الفتاة المتعمدة لنا.. يبدو أننا أخطأنا في طرقنا بابكم منذ البداية
-أبدًا والله يا شكري أفندي.. تحدثي رجاء يا أم فتحي
التفت إلى زوجته وزجرها بتسلط قاسٍ: إذا سمعتك تأتين بسيرة ست نعيمة الخاطبة مرة أخرى سأعيدك إلى شقيقك وليس لكِ مكان في بيتي
فغرت أم فتحي فمها وأجهشت في البكاء، تُلقي عليهم اللوم والعتاب، رمت سعاد بنظرة كره وحقد قبل أن ترحل في أذيال زوجها.
أدركت سعاد فشل محاولاتها في استجداء دعم الزوجة بعدما جرى، أغلقت الباب واستدارت إلى غرام في غيظ.. تلك الفتاة لم ترفض فقط عريس لا يعوض، بل أهانت الضيوف وأوشكت على خراب بيت.
وقوف غرام الثابت أمامها زاد غيظها، رفعت سبابتها وأحملت نبرتها كل الغضب المستعر داخلها: اسمعي يا ابنة رؤوف.. لن أدوم لكِ ولا هو سيدوم!، على ماذا تتأمرين وترين نفسك؟؟.. لقد أشقاني الوصول لهذا الذي أهنتيه وعائلته قبل دقائق!، أوشكت على تقبيل أيدي الخاطبة حتى تحضر لكِ عريسًا قيمًا بعد العدد الذي رفضتيه قبله!.. أنتِ لم تعودي صغيرة، تجاوزتي الرابعة والعشرين.. وإن استمريتي في التشبث بعقلك وأفكاره الخربة فلا تلومي إلا نفسك
استدارت غرام متجهة إلى غرفتها: وهذا ما أقوله أيضًا، فلتوفري جهودك لبنات الحي الكثيرة.. ذوات الأعمار الأصغر والتي لا يشق فيها الحصول على عريس مناسب من وجهة نظرك
استمرت العمة تكيل إليها اللعنات على تفكيرها وغبائها الغير معقول.. تُذكِرها برفيقاتها اللاتي صِرن أمهات وهي ما تزال تتسلط على كل رجل قليلًا.
استمر الموشح مطولًا فيما دفنت رأسها تحت الوسادات تترجى النوم أن يداهمها فترتاح من صداع عمتها ومحاولاتها بث الضيق داخلها كي تنصاع لها في النهاية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق