(47)


حجرة صغيرة مظلمة لا تسمع بها إلا صوت بعض الأنفاس وتشعر فيها بأن هناك الكثير من الترقب والكثير والكثير من التوتر.
فجأة أنير ضوء باهت من مصباح متأرجح يتدلى من سقف منخفض ، ليست حجرة فارغة بل إنها حجرة تحتوي على طاولة أمامها مقعدان ؛ الأول يجلس فوقه شخص منكس الرأس يقبض يديه معاً بقوة ويهز ساقيه في توتر.
يقف من الجهة الأخرى له رجل واضعاً إحدى ساقيه فوق المقعد المجاور له يسند مرفقه إليه واليد الأخرى تهبط بعد أن أضاءت المصباح.
تحدث الرجل الواقف بصوت قوي: شكل القعدة عندنا عجباك يا عم سيد
سيد ساخراً: وهي القعدة عندكوا يتشبع منها بردو يا حضرة الظابط !
ضرب الطاولة بقوة صارخاً: والله يا سيد إما قولت كل اللي عايز أعرفه لتشوف أيام أسود من قرن الخروب ، ما يغركش الكام قفا اللي خدتهم ، دا يا حبيبي مجرد تسخين بس لكن لسه في تاني.
توقف دقيقة ليعطي كلامه التأثير المرغوب وتابع بصوت هادئ نسبياً لكنه يحمل من الثقة ما يجعل المستمع يقشعر بدنه: لسه في كهربا وجلد وحاجات من اللي قلبك يحبها يا أبو السيد
ابتلع سيد ريقه بصعوبة قائلاً: ما أنا قولتلك كل اللي عندي يا باشا
اقترب الضابط بوجهه من سيد حتى تقابلت أعينهما وقال بقوة وإبتسامة ساخرة على شفتيه: ما هو أنت هترجع تقولي كل حاجه من الأول تاني بس المرة دي بقى هتقولي اللي أنا عايز أعرفه مش اللي سياتك عايز تقولهولي فاهمني يا أبو السيد ؟؟
أومأ سيد بخوف بعد أن لمح الشر الكامن في عين الضابط وبدأ في السرد: هأقولك على كل حاجه يا باشا
ارتسمت إبتسامة نصر فوق شفتي الضابط واعتدل في وقفته قائلاً: كدا تعجبني يا أبو السيد وهنبقى حبايب ، قسم وسمعني
بدأ سيد بالحديث لتتضح الكثير من المعالم الخفية ، شارحاً ما حدث في تلك الليلة حتى تكراره لها وقت القبض عليه.
-------------
تمددت فوق فراشها وقد عقدت ذراعيها أسفل رأسها محدثة نفسها: هو عايز إيه ؟ أنا مش فاهماه ، بيلمح إننا نرجع لبعض يعني؟ ، هو متخيل اللي عمله معايا ممكن انساه ؟ ، هو أنا ف نظره ماعنديش كرامة للدرجة دي؟؟؟
عادت بذاكرتها ثلاث سنوات إلى الوراء....
لقد واجهها بعدم رضاه عن هذا الزواج وأنه تزوجها إرضاءً لوالده مراد فقط وليس رغبة بذلك.
بعد أن أنتهى من سرد مبرراته وأسبابه التي دفعته للزواج بها وبغيرها تركتها متجهة إلى غرفتها ، وبلا تفكير فقط أنزلت حقيبة السفر وبدأت بزج الثياب بها دون ترتيب.
وبعد أن أنتهت من عملها ، أغلقت الحقيبة بإحكام ووقفت تلتقط أنفاسها كأنها أنتهت من سباق في الركض السريع.
أغلقت الغطاء الخلفي للسيارة بعزم ما فيها وألقت نظرة أخيرة على المنزل لترى باسل يراقبها من خلف إحدى النوافذ بصمت دون أن يحاول منعها.
ابتسمت بسخرية لنفسها فهي إلى تلك اللحظة كان لديها أمل بأن يدرك خطأه ويمنعها مدعياً أنها أصبحت جزء من حياته بعد مرور عامين على زواجهما ولكن هيهات فيبدو أن الأفلام العربية قد أثرت في قواها العقلية.
انطلقت بسيارتها تفكر إلي أين تذهب ولمن تلجأ ، فهي أصبحت يتيمة بلا سند ولا ترغب في العودة إلى منزل والدها حتى لا تتذكر وفاته ووحدتها أكثر من ذلك.
كانت تفكر وتفكر حتى أنها لم تنتبه إلى تلك العبرة الهائمة على وجهها هي الأخرى.
كبست على مكابح السيارة ومكابح عقلها ولكن كان ماحدث قد حدث وتأخر رد فعلها ، لقد دهست شخصاً بسبب قلة إنتباهها.
صفت السيارة على جانب الطريق كيفما اتفق واتجهت إلى الجسد الملقى وسط الطريق.
تجمع الناس ؛ بينهم من يسب الذي منح النساء حق القيادة ، ومن تصرخ حسرة على الشابة المغدورة.
صرخت بهم ديما: حد يشيلها ويدخلها العربية عشان الحق أخدها المستشفى.
خرجت إمرأة من وسط الزحام ومنعتهم من تحريكها قائلة: أنا دكتورة ، ماينفعش تحركوها عشان لو في كسر أو نزيف جامد ، أنا كلمت الإسعاف وزمانهم في الطريق.
جلست الطبيبة بجانب المصابة على الأرض تحاول عمل بعض الإسعافات الأولية لتنقذ ما تستطيع إنقاذه.
حضرت سيارة الإسعاف وتبعتها ديما بسيارتها وقد أخذ منها القلق والفزع مأخذه.
بعد فترة خرج الطبيب تتبعه الممرضة من غرفة الفحص وقال بإبتسامة بلهاء أو هكذا رأتها ديما حينها: الحمدلله مجرد كسر في رجلها الشمال ومافيش نزيف
ديما بقلق: يعني هي كويسة ؟
أومأ الطبيب: زي ما قولتلك مجرد كسر بس ، وزيادة في الإحتياط  هأحطها لمدة 24 ساعة تحت المراقبة عشان لو حصل نزيف مفاجئ ولا حاجه
ديما متنهده: الحمدلله
استأذن الطبيب منصرفاً ، همت الممرضة بالإنصراف خلف الطبيب ولكن ديما استوقفتها متسائلة : هو أنا ينفع أدخلها ؟
الممرضة: أه طبعاً ، بس لما ننقلها الأوضة بتاعتها هي أوضتها هتبقى رقم 8
أومأت ديما شاكرة واتجهت إلى كافتريا المستشفى لتتمالك أعصابها قليلاً.
توجهت إلى الغرفة بعد أن وصفت لها إحدى الممرضات أين تقع تحديداً ، وجدت الضابط يخرج من إحدى الحجرات فأمعنت النظر لتجد أنها الحجرة التي تقصدها.
كانت برفقته الممرضة المسئولة عن المريضة ولكنها لم تكن قد لاحظتها إلا عندما أشارت إليها هامسة ببضع كلمات في أذن الضابط.
وقع قلبها من شدة الرعب عندما رأت الضابط يتوجه إليها قائلاً بلهجة رسمية: لو سمحتي عايز أخد أقوالك بخصوص الحادثة عشان أقفل المحضر ، لإنه ما بقالوش داعي عشان المصابة رفضت تقدم شكوى
ديما ببلاهة: أفندم ؟؟
الضابط موضحاً بعد أن نظر في الأوراق التي بيده: الأنسة مريم رفضت تقدم ف حضرتك شكوى وقالت إنها هي الغلطانة لإنها كانت ماشية من غير ما تركز في الطريق.
أنهت الإجراءات النهائية مع الضابط ثم دلفت إلى حجرة مريم وقالت بإبتسامة: حمدالله عالسلامة
أجابتها مريم بإستغراب: الله يسلمك
فهمت ديما أنها بأنتظار تعريفها لنفسها فمدت يدها قائلة: أنا ديما شهاب الدين
أضافت بخجل مترددة: اللي خبطتك بالعربية
صافحتها مريم باسمة: تشرفنا
ديما شاكرة: ميرسي أوي إنك ما قدمتيش شكوى فيا
مريم: أنا غلطانة زيك بالظبط كنت ماشية ومش مركزة ف حاجه وبالتالي ما أخدتش بالي منك
ديما براحه: طب الحمدلله ، أنا كنت خايفة أشيل ذنبك بس الحمدلله جت سليمة
مريم: الله يسلمك
ديما: طب ماعندكيش حد أكلمه وأقوله على اللي حصل ليقلقوا عليكي ؟
مريم بشرود وقلب مكسور الخاطر: لا ماعنديش
ابتسمت ديما عندما تذكرت أيضاً خروج مريم من المستشفى بعد ذلك بيومين وقد توطدت العلاقة بينهما كثيراً ، لقد تقاربتا بشدة حتى أن كل واحدة روت للأخرى حكايتها.
ديما بمرح: بما إني بقى ماليش حد وإنتي طفشانه فأنا دورت ولاقيت شقة في مكان كويس تناسبنا إحنا الإتنين
مريم متعجبة: دا إزاي؟
ديما: زي الناس ، أنا وإنتي هنعيش سوا ، وأهو نحط همومنا على بعض ونقفل عليهم الدولاب ونكمل حياتنا
مريم رافضة: لا لا ، أنا ما أقدرش ، ما ينفعش
ديما بجدية: أنا كنت قررت أسافر بره تاني وابدأ من جديد لكن بعد ما عرفتك قررت أرجع أقعد هنا بس إنتي تكوني معايا ، صدقيني إحنا هنقوي بعض وهنقدر نكمل.
قبلت مريم في النهاية بعد مجادلة طويلة الأجل.
-----------------
كان يجلس على قهوة مصرية تحتل أحد الحارات الشعبية يلعب لعبة الدمينو وهو يمسك بعض أحجارها بين أصابعه وسيجارة على طرف شفتيه الغليظتين عندما شعر بظل يحجب عنه الرؤية فنظر ليجد شخص يبدو في الخمسين من عمره يرتدي أغلى أنواع الثياب.
نظر له وقال بثقة: سيد القرش
أومأ سيد: خير
نظر الرجل إلى من يجالسه قائلاً بلهجه لا تقبل النقاش: عايزك في موضوع لوحدنا
نهض سيد من مكانه ونظر إلى رفيقه: نكمل بالليل بقى يا شلبي ، سلامو عليكو
ركب سيد بجوار الرجل في سيارته الفخمة: خير يا باشا
الرجل بجدية: عايزك في شغلانه هتكسبك دهب
سيد بحماس: أنا من إيدك دي لإيدك دي مادام فيها فلوس
الرجل: تقدر تعمل إيه ؟
سيد بحيرة: اللي تأمر بيه أنا معاك من السرقة والتهويش لحد القتل لو تحب
الرجل بحزم: قتل لا ، فاهم ؟ قتل لا
أومأ سيد: من عنيا يا باشا ، اللي يعجبك
الرجل: كدا تعجبني
سيد: طب مش نتشرف باسم جنابك ؟
الرجل: مالكش دعوة باسمي اللي يهمك الفلوس اللي هتاخدها وبس
حك سيد رأسه قائلاً: زي ما تحب أباشا
أعطاه الرجل ظرفاً مغلقاً: عايزك تروح الشقة اللي في العنوان اللي معاك دا لما أتصل بيك وأحددلك المعاد هتلاقي فيه بنت لوحدها مش عايزك تقتلها ولا تأذيها عايزك تخوفها بس وتكون على استعداد ف أي وقت إنك تنفذ
سيد: ماشي يا باشا ، بس ما اتفقناش على الفلوس
الرجل مشيراً للظرف: ما تخافش هأبسطك وأكرمك المهم تنفذ اللي بأقولك عليه بالحرف ولسه الباقي هتاخده بعد التنفيذ ... تمام ؟
نظر سيد إلى المبلغ الموجود بالظرف ولمعت عينيه بجشع: تمام يا باشا تمام أووي
الرجل محذراً: بس زي ما قولتلك قتل لا وأذى لا مجرد تخويف مش أكتر
سيد: فاهم يا باشا هو حد قالك إنه سمعي تقيل ولا حمار
الرجل: لما نشوف.
توقف سيد عن الحديث فسأله الضابط: ما تكمل ياخويا سكت ليه ؟؟
سيد بإرهاق: أصلي تعبت يا باشا بقالي يومين ماكالتش حاجه
الضابط ساخراً : يا خفة
دق هاتف الضابط فطرق باب الغرفة ليفتح له أحد العساكر من الخارج فأمره: خده وأديله أكل لما نشوف أخرتها معاه.
أومأ العسكري صاحب الزي المدني ورحل برفقة سيد ، أجاب الضابط على هاتفه.


0 التعليقات:

إرسال تعليق