اكتبوا..

..اكتبوا


فإن كان فعل القراءة يعرفكم بما جهلتموه من العالم، الأشخاص، والحيوات.. فإن فعل الكتابة يعرفكم على ذواتكم المختبئة عن أنفسكم وعقولكم. أكثر ما أحببته في الكتابة أنها سلمتني منظارًا معظِمًا يكبر كل النقاط داخلي، بل يجعلها هي موضع الدراسة، الاختبار، سامحًا لها بالسيادة والتعبير عن وجودها، متجاهلًا جهلي القمعي لحريتها في تنشق هواء حرية التعبير.
القراءة أثبتت لي عدة مرات أن اختلاف وجهات النظر ليس بالضرورة تأكيدًا لصحة أحدهن دون الأخرى؛ فقد تكون كلهن على جانب الصواب. أما الكتابة فعلمتني أن دواخلي نفسها قد تحمل أكثر من وجهة نظر واحدة، كلٌ تعبر عن نفسها وقت تتاح لها الفرصة.


القراءة أطلعتني على كوامن شخصيات، وقفت ضدها ذات يومٍ عن جهلٍ، فصقلتني بخِصلة التعاطف والتأني في الأحكام. والكتابة جعلتني أجيد التعبير عن مشاعري فوق الصفحات حتى انتقل الوضع للحياة...

القراءة دلتني على وجود الخيال، وكيفية التخيل بدقة وجمال، أما الكتابة فهمست لي بأحقيتي في خلق عالم خاص، أن لا أكتقي بما خلقه آخرون وأن من ضمن قدراتي خلق عوالم أخرى مثلهم، أجد فيها ما أرغبه، ولمساتي تملأ جوانبه.

القراءة همست لي بحزنٍ: أن ليس كل ظالم له عقاب مرئي، ولا كل جريمة يُعاقب مرتكبها بين دفتي حياة. حينها غمزت لي الكتابة أن: اكتبي عقابك كما تودين، بكل الطرق الجهنمية التي تعرفين ولا تعرفين، اكتشفي مقدار الرغبة في الإقتصاص داخلك وعبري عنها على السطور مكملة النهاية التي لم ترضكِ. القراءة أفهمتني -بعملية- أن ليس كل ما يلمع ذهبًا، ولا كل ما يكتب صادقًا، أن أغلق عقلي أمام الكلمات حتى التأكد من صحتها، وإن صحت، فاترك الباب مواربًا لاحتمالية نفيها لاحقًا؛ فلا شيء ثابت أو أكيد. فيما استغلت ذلك الكتابة بدفعي للتقصي خلف كل معلومة قبل ذكرها، فلا أكون موضع شبهة ونقد علمي، أنا في غنى عنه. فتعيدني إلى القراءة من جديد عن طريق ممر آخر لاستزيد. موفرة لي فرص أقل لنقل معلومة خاطئة أو شائعة، نهى عنها ديني، مخففة عن كاهلي ثقل هفوات صغيرة عن جهل.

القراءة أرتني أن المثالية ليست بالضرورة الممهد لطريق النجاح والسعادة، بل أن المثاليين مكانهم في مصحة الأمراض العقلية آجلًا، وقمة الراحة في تقبل نواقص ابن آدم والتعايش معها؛ للانتباه للأمور الأهم. في حين الكتابة حفزتني لرسم وحكيّ قصص أشخاص ليسوا مثاليين، لكنهم نالوا ما أرادوا وأزيد.. لا لشيء إلا أنهم تخلصوا من ضباب شوش عليهم رؤية الأمور في نصابها.وإن كان ما خلقته محض وهم من خيالي؛ فعلى الأقل حولت درسًا علّمته لي القراءة إلى تمرين تطبيق، سيرسخ الفكرة بين جنبات عقلي بكل الطرق.

ما زلت حتى الآن بين دفتي الإثنين -القراءة والكتابة-، ولو لم تكن الأولى تستهويكم لما كنتم هنا، لذلك أجد أن من واجبي تمهيد طرقكم إلى الثانية. لتحلموا أحلامكم الخاصة لا من يحلمها كل من قرأ نفس الرواية، لتكتشفوا ذواتكم الأعمق مما تظنون أنفسكم تعرفون عنها -وأنا أشد الناس علمًا بذلك-، لتفعلوا ما علمتموه مما قرأتم وتزيدوا فائدته وترسخه، لتتواصلوا مع أنفسكم فتستطيعوا التواصل مع المحيطين.. لتنبهروا بما جهلتم وجوده فيكم، وتستمتعوا بانبهار الآخرين بكم.

..اكتبوا


وإن لم تملكوا موهبة الروائي، القاص، الحاكي، الراوي.. احتفظوا بما كتبتم لأنفسكم.
النشر ليس فرضًا فلبعض الكِتابات قدسيتها..

سارة محمد سيف
اكتبوا... - سارة محمد سيف


0 التعليقات:

إرسال تعليق