الفصل الثاني عشر


أسرعت في إتجاه غرفتها التي تشاركها مع حياه بينما بقى حمزه في الصالة يصل إلى مسامعه الحوار الدائر بالداخل ... كان حواراً حاداً تتحدث فيه حياه بكل حسم وإصرار.
حنان: يا بنتي هتروحي فين دلوقتي .. أخوكي الله أعلم هيعمل فيكي إيه
حياه بعند: مش مهم، يعمل اللي يعمله، هأسافر يعني هأسافر
صرخت بها: وأنا مش هأسيبك تسافري وترمي نفسك ف النار يا حياه !
بادلتها حياه الصرخ بصراخ أكبر، صرخ يصدر من أعماق القلب قبل الصوت: هأسافر يا حنان، أبويا بيموت وأنا السبب، كسرت الراجل اللي كنت بالنسبة له أهم حاجه، الراجل اللي رباني وحبني أكتر من أي حد، كان بيشوفني صاحبته قبل ما أكون بنته، اللي عاملني أحسن من أي حد ف بلدنا بيعامل بنته، عاملني على إني بني أدمه وهما بيعاملوا بناتهم على أنهم غلطات ف حياتهم، مع كل دا أنا كسرته، خليته يمشي بين الناس راسه في الأرض، كأني اثبتلهم إن معاملتهم هي اللي صح وتربيته هي اللي غلط .. ما تعرفيش النار اللي جوايا إيه وأنا بأسمع عياط أختي في التليفون وهي بتقولي أبويا تعبان والدكتور بيقول حالته بتتدهور .. هأروح أشوفه بأي شكل حتى لو فيها موتي
جرت حقيبتها خلفها، توقفت قبل أن تصطدم بجسد حمزه، حجبت الدموع عنها الرؤية، أوقفها سائلاً بقوة: رايحه فين ؟
أجابته بتحدي: ما يخصكش
تحداها بقوله: أي حاجه تخص مراتي تبقى بتخصني بالظبط !
***
توقف الزمن أمام عينيها، تشعر الآن بحال من أماته الله مئة عام ثم أحياه ليجد الحياة تسير من حوله وهو لم يشعر بما حدث، أصبحت تجلس الآن أمام المأذون يعقد قرانها على حمزه بعد أن تولى والده أحمد أمرها وأصبح هو وكيلها، شردت تتذكر سبب ما هي تعيشه الآن .. إنه ما حدث قبل يومان.
لم تصدق أذنيها .. لقد طلب منها الزواج حقاً لكن بطريقة ملتويه، انسحبت الجدة تتعكز على حفيدتها مشيرة لها بضرورة الإنسحاب .. يجب عليهما الجلوس بمفردهما جلسة تملؤها الصراحة والحديث الحر المنفرد.
جلس حمزه وأشار لها بالجلوس، جلست مسلوبة الإرادة غير مصدقة أن من أدركت مؤخراً حبها له تناسى استياءه منها وطلب الزواج بها، لكنها أفاقت على كلماته التي لا تحمل أي لمحة من الرومانسية أو الحب .. فقط نبرة جدية لا غير.
- إنتي عايزه تروحي لأهلك مش كدا ؟
هزت رأسها كتائهة في صحراء جدباء، لما فتح هذا الموضوع وما علاقته بما قال، أجابتها كلماته القادمة لكنها جرحت أنوثتها و .. قلبها.
- لو رجعتي دلوقتي أهلك مش هيسكتوا .. ويمكن أخوكي ينفذ تهديده، لكن لو رجعتي متجوزة ماحدش هيكلمك .. ع الأقل هتلاقي حد تتحامي فيه، وتقدري تقفي قدام عيلتك أقوى من كدا
سألته مبهوتة: وأنت عشان كدا عايز تتجوزني ؟
حمزه ببرود: عشان دا ف مصلحتي ومصلحتك
ضيقت جفنيها قائلة ببطء: مصلحتي وعرفناها .. إنما مصلحتك أنت إيه ؟
- ماما زي ما إنتي عارفه نفسها تجوزني إنهارده قبل بكره .. بكدا هأقدر أريحها، كمان مي مي مضايقه جداً من ساعة ما رجعتيها وما بقتش تشوفك
نظرت له بشك غير مقتنعة بمبرراته: دي مش مبررات كفايه
أضافت بتروي: أنا سألتك مصلحتك أنت إيه .. مش مصلحة غيرك !
صمت قليلاً قبل أن يصارحها: كنت معجب بواحدة واتخطبنا .. لكن بعد كدا اتعرفت على واحد جاهز ومعاه فلوس أكتر فسابتني واختارته
أضاف بعد صمت أخر: دلوقتي أطلقت وعايزنا نرجع لبعض تاني .. متوهمة إني لسه بأحبها وإني عايزها وبأفكر فيها .. جوازي هيثبتلها إني طلعتها من دماغي وفي نفس الوقت تبعد عني
أحست أن كل حرف نطقت به حنجرته كأشواك تغرس داخل قلبها تُدميه حتى الموت، أخذت نفساً عميقاً تُرجع به دمعاتها حتى لا تهطل أمامه: أنا مش موافقة على عرضك دا يا باشمهندس حمزه
طعنته في كبريائه كما في رجولته، رفضت عرضاً كان يعتقد أنها ستطير فرحاً لسماعه، رد بكل تعقل بقى لديه: عايزه تزوري والدك المريض .. هتزوريه لوحدك وتفتحي جروحه وكمان مش بعيد تخسري حياتك .. كدا أحسن ولا ..
صمت ليعطي لكلماته التأثير المرجو، هو يعلم موضع كلماته وطريقة نطقها بنبرة معينة، نطق أخيراً متأكداً من ترقبها: ولا تروحي مع جوزك .. معززه مكرمه .. تمشي في وسط البلد وراسك مرفوعه على عكس ما تروحي لوحدك .. أكيد والدك مهما كان يعني هيبقى همه إنه يطمن عليكي وإنه في حد معاكي بيحافظ عليكي ويصونك عشان لو جراله حاجه لا قدر الله .. أظن هو رفض الأولاني دا عشان كان شاكك ف إنه مش قد المسئولية ومش هيطمن عليكي معاه
نهض ملتقطاً نظارته الشمسية ومفاتيحه من فوق الطاولة: ع العموم أنا هأسيبك تفكري .. معاكي الليل كله وبكره أخد الرد .. عن إذنك
رحل وتخبطت هي في أفكارها، وكزتها حنان في ذراعها لتستفيق، لقد رفع المأذون المحرم معلناً إتمام كتب الكتاب فقد اتفقا أن يكون هذا زواجهما فقط أو بالأصح هي من اقترحت، لقد تمنت أن ترتدي الثوب الأبيض لكن هناك شرط اختل فاختلت معه باقي الموازين .. العريس لا يحبها.
ضمتها الجدة مباركة زواجها، التقت نظراتها التائهة مع نظرات سمية الحانقة، منذ عرفت بقرار ولدها  بالزواج من حياه وهي لم تهدأ، حاولت إقناعه بالعدول عن رأيه لكنه لم يستجب، قررت اقتصاصه بعدم الحضور لكن أحمد أصر عليها فهو ولدهما الوحيد وهي التي لطالما تمنت هذه اللحظة فكيف تتخلى عنها مهما كانت شخصية العروس؟؟ .. رغم ذلك لم تنل العروس رضاها خصيصاً عندما شعرت من ثوبها الرمادي المحلى بالخرز الفضي أنها ليست راضية بهذه الزيجة مثلها .. إذاً لما وافقته ؟؟
ابتسمت نجلاء وهي تلثم وجنتيها: ما تعرفيش فرحت قد إيه لما عرفت إنك هتتجوزي حمزه، ربنا يسعدكوا يا رب .. هو دا فعلاً الإنسان اللي هيقدر يصونك
ابتسمت إبتسامة باهتة، اصطحبها حمزه في وقت لاحق إلى منزل والديه حيث تقرر إقامتهما به، دخلت تسبقه إلى غرفته التي لحسن الحظ ملحقه بحمام خاص، تبعها.
- كمان أسبوع أو عشر أيام كدا ونسافر .. فيه مشروع ف إيدي ولازم أخلصه ما ينفعش أسافر وأسيبه
ألقى كلماته الباردة وتركها متجهاً إلى الحمام، جلست على طرف الفراش تفكر .. إنها قبلت الزواج منه لحبها له الذي ملئ خلايا قلبها، تمنت أن تصبح زوجته ولو لفترة محدودة فلم يعد لديها ما تخسره بل كانت ستخسر متعة أن تكون بجوار من تحب، ستحتفظ ببعض ذكرياتها معه تعينها على ما بقى لها.
فور خروجه تناولت من حقيبة ملابسها ما ستقضي به ليلها واتجهت إلى الحمام دون أن تنظر إليه، تخشى رؤية نظرة تجرحها وتدمي قلبها.
بعد فترة خرجت مرتدية حلة نوم طفولية تتشابه كثيراً مع ما ترتديه مي مي، حاول كتم ضحكته مبدياً إنشغاله بمطالعة ملفات تخص عمله، اتجهت إلى الفراش عندما سمعته يقول: نامي على الناحية التانية أنا بأحب أنام ع الناحية دي ...
تدحرجت إلى الجهة الأخرى وتدثرت بالغطاء لتغط في سباتٍ عميق، أجهدها التفكير خلال الأيام الماضية دون أن يترك لها فرصة لأخذ قسط من الراحة، بعدما تأكد من نومها تسلل إلى جوارها يتلمس شعرها للمرة الأولى، لقد كان غجرياً متمرداً ذو كبرياء وأنفة كما هو حالها، تعبر خصلاته عن شخصية صاحبتها، تبسم ثم انزلق داخل الغطاء يشم بقايا رائحتها العالقة في الوسادة حيث وضعت رأسها لثواني، أزكمته الرائحة فراح في النوم.
***
رقدت على فراشها بعد أن هجرها النعاس، حالما توضأت الجدة مرت بحجرتها تطمئن عليها، انضمت إليها وحنان في ملكوت أخر لا تشعر بسواها.
- بتفكري ف حياه مش كدا ؟
هزت رأسها قائلة بشرود: أنا بأفكر ف اللي هيحصلها
إلتفتت تحدق في عيون جدتها تتحدث بثقة: حياه بتحب حمزه، سألتها ف مرة عن شعورها ناحيته بس اتهربت مني بعينيها قبل جوابها .. هي نفسها ما كانتش عايزه تعترف بكدا .. هي قبلت بجوازها منه مش عشان عيلتها لا .. عشان هي عايزه تتجوزه .. أنا عارفاها  كويس هي كانت حاطه في دماغها تروحلهم مهما كان اللي هيحصلها إيه .. معقوله بعد كدا تقبل بجوازه من واحد مش بيحبها علشان عيلتها؟ .. ما أظنش
ابتسمت الجدة بخبث: ومين قالك إنه مش بيحبها ؟؟
اتسعت عيني حنان دهشة: قصدك إنه ....
أومأت: زي ما هي بتحبه وبتكابر هو كمان بيعمل كدا .. بس أنا شوفت الحب ف عيونه، أصل بردو بالعقل فيه واحد هيتجوز واحدة عشان خاطر أخته الصغيرة ومامته خصوصاً بعد ما عرف حكايتها؟ .. كمان مامته كان شكلها باين إنها مش طايقه حياه ولا راضية بالجوازه من أصله وجت غصب يبقى إزاي عشان رضاها؟
تجعد وجه حنان بقلق: تفتكري ممكن تعاملها وحش ؟
ربتت على كتفها بحنان: يا بنتي اللي ربنا كاتبه هيكون وبعدين حياه هتعرف تتصرف هي عدت حاجات أصعب من كدا .. بعدين تعالي هنا .. إنتي إمتى هتبطلي تخافي ع الناس وتشيلي همومهم أكتر من نفسك ؟؟ .. مش عارفه أنا لو حصلي حاجه هأسيبك لوحدك إزاي..
ضمتها حنان بقوة ونهرتها: ما تقوليش كدا والله أزعل منك .. دا إنتي اللي بقيالي يا تيته
- لا اللي باقي لك فعلاً هو ربنا .. كل من عليها فانِ
أضافت مازحة لتزيح غيمة الحزن: أوعي يا بت كدا كتمتي نفسي .. هاتأخر ع النوم ومش هأعرف أصحى لصلاة الفجر بسببك !
ضحكت حنان: طيب تصبحي على خير
نبهتها الجدة مغادرة: وإنتي كمان نامي .. عندك مدرسة الصبح .. هو أنا مش هأرتاح من الجملة دي ولا إيه؟؟ ههههههه
تمددت حنان على فراشها مقهقهة، جدتها هي شمس حياتها الضاحكة تنسيها هموم الدنيا بمداعباتها .. أدامها الله فوق رأسها.
***
تقلبت في نومها ثم فتحت عينيها على حمزه الذي يقف أمام المرآة يرتدي ساعته منهياً استعداده للذهاب إلى عمله، راقبته مدعية استغراقها في النوم .. تتمتع برؤيته خفية، ارتسمت إبتسامة صغيرة على شفتيها .. إبتسامة مليئة بالحب والشوق.
إلتفت فجأة ناظراً في عينيها، خجلت منه بشدة ونظرت صوب الأرض، أبتلع إبتسامة أبت الظهور على ثغره، قال مقطباً: أنا نازل .. سلام
نهضت بعد تأكدها من ذهابه واتجهت إلى الحمام تبدل ملابسها وتستعد لما ينتظرها من حماتها المصون.
خرجت لتجدها جالسة وحدها بعد أن ودعت مي مي إلى مدرستها، لقد أقنعتها بضرورة ذهابها إلى مدرستها لأنها أبت المغادرة متحججة بأن حياه يمكن أن تعود لتدريسها، رغبت سمية بإبعاد أي يد لها عن الطفلة حتى لا تضرها مجدداً.
دنت منها باسمة: صباح الخير
لم تعرها أي إنتباه وظلت تقلب في صفحات مجلة بيدها، شعرت حياه بالحرج من تلك المعاملة لم تدرِ ماذا تفعل حتى أتاها صوت مُنجدها من الخلف.
ربت على كتفها بحنان: مالك واقفة كدا ليه؟ .. دي مش مرة أول تنورينا .. أي نعم بصفة جديدة لكن بردو المفروض إنك عارفانا وواخده ع البيت
- معلش أصلي مرتبكة شوية
غمزها باسماً: طب ممكن الجميل يعملي فنجان قهوة ؟؟ .. بقالك كتير ما عملتليش فنجان مظبوط
أومأت بسعادة: من عنيا .. دقايق ويكون جاهز
انطلقت إلى المطبخ سعيدة بمهمتها الصغيرة، جلس إلى جوار يسألها لائماً: ليه كدا يا سمية؟
ادعت الجهل: ليه إيه؟
- يعني مش عارفه
ألقت المجلة بعيداً وقالت بعصبية ملحوظة: مش طيقاها يا أحمد .. حاساها ما تستاهلش ابني
- طب ولو نجلاء اللي حصل فيها كدا ؟ .. كنتي هتحسي بإيه لو حماتها عاملتها بالطريقة دي ف حاجه حصلت غصب عنها ؟
صمتت قليلاً قبل أن تقول مبررة: ما هي كمان مش مفرحه ابني .. في واحد يروح شغله يوم صبحيته بردو إلا لو كان مش طايق وشها ؟؟
- ليه تحملي البنت ذنب مش ذنبها ؟؟ .. إنتي أصلاً عارفه ابنك ما يقدرش يستغنى عن شغله يوم على بعضه .. وبعدين مش الأحسن إنك تساعديهم خصوصاً إنه اللي حصل حصل خلاص؟
قدمت حياه حاملة القهوة تقول بمرح: وعندك أحلى فنجان قهوة لأحلى عمو في الدنيا
ضحك أحمد متناولاً فنجانه: تسلم إيدك .. عن إذنكوا هأروح أشوف الوردات بتوعي اللي ف البلكونة
حلما غادر نهضت سمية تلحق به هي الأخرى لكن يد حياه أوقفتها، همست بصوت يكتم شهقات البكاء: إنتي ليه بتعامليني كدا ؟ .. أنا عملتلك إيه ؟
نفضت سمية ذراعها بقسوة: إنتي عايزه تلبسيني تهمه يا بت إنتي ولا إيه ؟؟ .. أنا عاملتك إزاي إن شاء الله؟
قالت بمرارة: فاكراني مش واخده بالي من نظراتك ليا إمبارح وإنك مش طايقاني ولا راضيه عن جوازي من حمزه ؟؟ .. ولا من معاملتك وإنتي بتبعدي مي مي عني .. كل دا عشان عرفتي حكايتي؟ .. حضرتك كنتي مربية أجيال .. مُدرسة وبعدها ناظرة مدرسة .. لو حصلت مشكلة لطالبة في مدرستك زي اللي حصلتلي يا حاضرة الناظرة كنتي هتعامليها زي ما بتعامليني كدا ؟؟ .. كنت فاكره إنه قلبك كبير وهيستقابلني .. هيعوضني عن حنان ماما –الله يرحمها- هتخديني في حضنك وتطبطبي عليا .. تقوليلي ما يهمكيش أنا جانبك، مامتك ماتت أه بس أنا هنا .. بس يظهر إني كنت غلطانه .. أعذريني على ظني
استدارت تخطو إلى غرفتها أو بالأحرى غرفة حمزة، أوقفها نداء سمية فنظرت إليها بقلق باكية، فتحت سمية ذراعيها وإبتسامة تخترق الدموع المتساقطة على خديها: تعالي .. حضني مفتوحلك دايماً .. زيك زي نجلاء يا حياه
ارتمت بين أحضانها تبكي، تبكي على أمها المتوفاة، على حضن شقيقتها الذي حرمت نفسها منه، على أيام العذاب التي مرت بها، بكت كل ما مرت به حتى الآن.
***
كان قلبها يأكلها على حياه، لقد أصبحت الراعي لها منذ أن التقتها، ذهبت تزورها في منزلها فقد حفظت العنوان بعد زيارتها الأخيرة له.
فتحت لها سمية الباب وابتسمت بوجهها: أهلاً وسهلاً .. إتفضلي
دلفت إلى الداخل معتذرة: معلش جيت من غير معاد .. بس أنا كلمت حياه على موبايلها بيديني مغلق وما أعرفش نمرة البيت هنا وكنت قلقانه عليها جداً
هدأتها سمية وهي تطلب منها الجلوس والاسترخاء: ما تقلقيش .. موبايلها فصل شحن، لسه مكلمه نجلاء وهي معاها وطمنوني
- هي مش هنا؟
- لا خرجت مع نجلاء يتمشوا ويغيروا جو .. بقالها أسبوع في البيت مش بتخرج، أول ما عرفت من حمزه إنها يومين وتسافر لأهلها طارت من الفرحة وقررت نجلاء تاخدها يجيبوا هدوم جديدة .. إزاي عروسة من غير هدوم جديدة يعني؟ .. أصلاً لولا السربعه اللي كانوا فيها أنا كنت جبتلها شئ وشويات
تعجبت حنان لنبرة الحب القافزة من كلماتها منذ متى تحولت من الحماه إلى الأم الحانية، حاولت الإعتذار للمغادرة ولكن سمية تمسكت بها بشدة حتى عودة حياه.
قدمت مي مي في تلك اللحظة تحمل عروستها وتقترب من سمية بحزن، سألتها سمية عما بها، أجابت وهي توشك على البكاء: إيد العروسة فكت
تناولت منها الذراع المفصول عن جسد الدمية في كف والكف الأخر حملت به باقي الجسد، نظرت لها بحيرة وقالت معتذرة: معلش يا مي مي مش بأعرف أصلحها، روحي إلعبي بواحدة تانية
لمحت حنان الحزن يزداد على الوجه الملائكي، مدت كفيها: هاتي أنا هأركبهالك
ركضت مي مي إليها مسرعة بالدمية تناولها إياها بحماس، نهضت سمية ضاحكة: طب عقبال ما تركبيها بقى أكون عملتلنا كوبيتين عصير ف الجو الحر دا .. شكله هيبقى صيف صيف يعني
انتهت من إعادة الدمية لوضعه الأصلي كما لو أنه لم يحدث لها شئ، قالت مازحة: شوفتي أنا جراحة شاطرة إزاي؟ .. عقبالك
ضحكت مي مي: ميرسي يا طنط
داعبت خصلاتها المتناثرة: العفو يا حبيبتي
تحركت حنان دون أن تلحظ الهاتف المحمول الموضع على فخذيها، نسيت أمره تماماً حال حديثها مع سمية بعد أن حاولت إجراء مكالمة أخيرة مع حياه وهي تقف على باب المنزل، مالت مي مي تلتقطه وتعيده إلى حنان عندما تجمدت بسمة الشكر على شفتيها وطغى الفزع على عينيها، لقد تدلت القلادة وظهرت إلى العيان.
ابتلعت ريقها بصعوبة تسأل: هي السلسلة دي بتاعتك ؟
أومأت مي مي بسعادة ممسكة بقلادتها: أيوه .. دا اسمي اللي مكتوب .. حلوة مش كدا ؟؟
دارت الدنيا بها، مصادفه أم شئ أخر، أمن الممكن أن تكون هناك قلادتنا بنفس الشكل تماماً يمروا بعمرها؟، سحبت حقيبتها وغادرت دون نطق حرف.
جاءت سمية تحمل كأسين من الشاي لكنها تفاجأت من غياب حنان، سألت الطفلة عنها فأشارت بأنها لا تعلم: هي فجأة قامت ومشيت ومش قالت حاجه
تعجبت سمية لكنها تجاهلت الموضوع وبدأت تلعب مع مي مي في إنتظار عودة حياه لتخبرها ما حدث وتعرف من صديقتها ما حدث.
***
قلبت نظراتها بين المرضى، فواحدة لم تتعدى عشرين ربيعاً تبكي بقهر وتشكو لمن تبدو أنها والدتها: ليه ما خلتنيش أجيب جنى معايا يا ماما
- معلش يا بنتي .. بس عيلة عندها 3 سنين هتيجي تعمل إيه هنا؟
زاد بكاء الفتاة: عايزة أشبع منها وما أسبهاش لحظة .. يا عالم هأقدر أروح ولا ...
جذبت الأم ابنتها إلى أحضانها باكية مقهورة: إن شاء الله خير وترجعي لبنتك بصحة وعافية
اقتلعت نظراتها من متابعتهما عندما شعرت بيد تربت على كفها المرتعش فوق حقيبتها، كانت امرأة في الخمسين من عمرها تبتسم مواسية: إن شاء الله هتخلصي منه بسرعة .. ما تخافيش
أومأت في صمت فعادت المرأة تتحدث: باين عليكي من نظراتك، بصي حواليكي واحمدي ربنا كلنا جالنا اللي ما يتسمى دا .. بس كل واحدة وظروفها .. ربنا يشفيكي يا حبيبتي
تدخلت حياه في الحوار: طب وحضرتك هنا من إمتى ؟؟
ارتسمت إبتسامة واهية تكاد لا تلحظ: بقالي سنة ونص
عضت نجلاء على شفتيها بفزع لاحظته المرأة: ما تخافيش أوي كدا .. إن شاء الله إنتي مش هتطولي كل دا
شرعت في قص حكايتها عليهم: أنا مصرية بس عايشة في اليمن، جيت هنا عشان العلاج .. وبقالي سنة ونص لا شوفت ولادي ولا روحت اليمن
بينما نجلاء مازالت لم تستوعب الصدمة دار الحديث بين السيدة وحياه: طب وجوز حضرتك فين؟
ظهر الأسى على ملامحها: متوفي من خمس سنين
- هو لو مافيهاش إزعاج الكانسر فين؟
- في الرئة
- ربنا يشفيكي
- تسلمي يا حبيبتي
ثم أضافت موجهة الحديث لنجلاء: ويشفيكي إنتي كمان يا بنتي
خرج الرجل من غرفة العلاج برفقة الممرض، حان الدور على نجلاء، دخلت تتبع تعليمات الممرضة، لقد جاءت من قبل ليخبرها الطبيب بما عليها فعله، فبعد أن يتحدث إليها قليلاً تتجه إلى العلاج مع الممرضة التي تعرف ماذا تفعل جيداً ثم تعود للحديث معه مرة أخرى .. انتظرتها حياه في الخارج تحاول التخفيف عن تلك الفتاة اليافعة وتتسامر مع المرأة الخمسينية.
حاولت أن تتمالك نفسها بعد أن ثبتت الممرضة الكانيولا في وريد يدها اليسرى، اندفع الكيماوي ليختلط مع دماءها وينتشر في جميع أجزاء جسدها، كتمت تأوهات كادت تهز العيادة بأكملها، شعرت بأن النار قد اضرمت في ذراعها لتنتشر في جسدها، حدثتها الممرضة في أي شئ وكل شئ لتشتت إنتباهها .. فما زال الطريق أمامها طويلاً.
بعد انتهاء الجلسة رافقتها حياه إلى حجرة الطبيب الذي نظر إلى نجلاء متبسماً: إزيك يا مدام نجلاء دلوقتي ؟؟
ابتسمت بسخرية: ما أنا لو كويسة كنت هأجي أعمل إيه هنا يا دكتور ؟
حافظ على إبتسامته وظل يحدثها عن علاجها وأعراضه الجانبية وكم من الممكن أن يستغرق .. إلخ من الأمور التي جعلتها تشعر بأن الموضوع أكبر بكثير مما تخيلت .. رغم أنها ظنتها كبيراً من الأساس.
أنهى حديثه: بس أهم حاجه النفسية يا مدام نجلاء .. دي ساعات كتير بتبقى أهم من العلاج نفسه
عادت نجلاء لسخريتها: أصلاً لو نفسيتي كويسة مش هأجيلك تاني
ابتسم إبتسامة أخبرتها أنه يعلم أن ما بيدها حيلة وستأتي رغم أنفها، ذلك أغاظها وجعلها تغادر مهرولة من الغضب حتى لم تلحظ المرأة الخمسينية التي ودعتها هي وحياه.
أسفل البناية التي تحتلها العيادة توقفت نجلاء قائلة: روحي إنتي يا حياه، أنا هأتمشى شوية قبل ما أروح
قبلت حياه بذلك فهي تعلم أنها تريد الإنفراد بنفسها فانصرفت تدعو لها بالشفاء والرضا بما قسمه الله تعالى فهي تشعر بنقمتها على ما حل بها .. ولكن كيف تلومها؟
- بس إنتي مش ناوية تقولي لحد بردو ؟؟
- لا
- أنا مسافرة كمان يومين ومش عارفه هأغيب قد إيه .. هتعملي إيه ؟
- عادي وفيها إيه ؟؟
- عادي إزاي !! .. هي عشان أول جلسة الدكتور عملها خفيفة لكن بعد كدا الله أعلم هتقدري تصلبي طولك لوحدك ولا لا .. إنتي ما شوفتيش الرجل اللي كان خارج كان عامل إزاي ؟؟
صرخت بها: أنا كويسة ومافييش حاجه، ما تقلقيش عليا لو عايزه أقول لحد هأقوله مش هأخد إذنك يعني !
زفرت حياه تحاول تفهم عصبيتها: خلاص اللي يريحك
همت بالإنصراف لكن نجلاء أوقفتها معتذرة: سامحيني .. ماكانش قصدي
ابتسمت: ولا يهمك .. بس لازم تقولي لفادي ع الأقل .. هو لازم يقف جنبك ويساندك
أومأت لها قائلة: إن شاء الله
انصرفت كل  واحدة في طريقها، مرت نجلاء بجوار أحد المحال وأعجبها فستان شديد الجمال والأنوثة، لكن فجأة أختفت سعادتها بإيجاد ما يناسب ذوقها عندما تذكرت بأنها ستموت في أي لحظة وقد لا يأتي عليها اليوم الذي سترتديه فيه ثم انطلقت مسرعة صوب منزلها لتخفي بين جدرانه أهاتها المتوجعة.
حمدت ربها على عدم عودة زوجها أثناء مكوثها في الخارج، ألقت الحقيبة كيفما أتفق وتوجهت إلى الشرفة تنظر إلى السماء وعينيها مليئة بالدموع.
- ليه يا رب تعمل فيا كدا ؟؟ .. ليه أنا ؟؟ .. أنا عملت إيه يا ربي في دنيتي أو ف حد عشان يحصلي كدا ؟؟ .. أنا مش موافقة على فكرة ع اللي بيحصلي دا ! .. مش راضية بـ دا
انهارت أرضاً تبكي شلالاً من الدموع، تتألم مما حدث ويحدث لها، في البداية حرمت من نعمة الإنجاب والأمومة ثم هذا المرض الملعون.
ألقت نظرة على مكان الجرعة التي أخذتها، وجدت وريدها قد نفر بشدة يكاد يخرج من معصمها رافضاً ما مر به من سائل كاوِ يجعله يجف من دماؤه، لاحظت كذلك تورم ذراعها.
اتكأت على سور الشرفة قبل أن تتوجه إلى غرفتها تتحمم وتحاول إزالة حزنها وألمها ليتم تصريفهم مع المياه إلى أنابيب الصرف ثم تستعد للذهاب إلى النوم على غير عادتها من إنتظار زوجها.
***
فتحت أبواب الخزانة على مصرعيها تتناول ما بداخلها من ملابس وتدسها إلى الحقيبة المفتوحة على الفراش .. كان ينقصها جناحان لتطير وتحلق إلى أهلها فقد استبد بها الشوق.
دلف إلى الحجرة بهدوء وفي حالة فات بصخب فلن يلفت انتباهه .. أخذتها السعادة إلى عالم أخر ملئ بالتفاؤل والأمل وقتها وإن حدثت حرب عالمية ثالثة ... لن تهتم، ظل يتأمل سعيها بين الخزانة والحقيبة برشاقة.
انتهت من حزم ملابسها التي ما تزال معدودة حتى ذلك الحين، في نفس اللحظة التي شعرت بنظرات مصوبة إلى ظهرها، استدارت ووجدته أمامها .. قالت بإبتسامة: أنا خلصت، لميت هدومي كلها
عقد ذراعيها مرتدياً قناعه الجليدي كلما حدثها أو نظرت إليه: ناويه تروحي ما ترجعيش ولا إيه ؟؟
هزت كتفيها: لا مش كدا .. أنا ماعنديش هدوم كتير فحطيتهم كلهم
- وبالنسبه لأنه لسه فاضل يومين ؟؟ هتقضيهم إزاي مادام شلتي الهدوم كلها؟
أشارت إلى جبينها: ما هو هنا فيه عقل عشان كدا سيبت طقمين يكفوني اليومين الجايين
كتم إبتسامته قائلاً بجدية: بكره ننزل وتشتري لبس تاني
قطبت عينيها تفكيراً ثم قالت بعد هُنية: بس مش معايا فلوس تكفي .. أخدت أجازة من المدرسة وما قطعتهاش وما قبضتش المرتب طبعاً
رد بقوة: وأنا بأعمل إيه هنا ؟ .. جيبي اللي إنتي عايزاه وأنا اللي هأدفع
هم بالمغادرة لكنها أمسكته من ذراعه، نظر إليها .. عينيها معتمتين من الغيظ والغضب الذي لم يفهم لهما سبباً بيناً.
كزت على أسنانها: وأنا مش عايزه منك حاجه
ذكرها بقسوه: ما تنسيش إنك مراتي ومن حقك إني أصرف عليكي وألبيلك كل طلباتك
نظرت إليه باستغراب متمتة بسخرية: من ساعة ما اتكتب كتابنا دي أول مرة تقول إني مراتك وإنه ليا حقوق وعليك واجبات
برقت عينيه للحظة صدمتها لكنها اختفت قبل أن تستوعبها فظنت أنها تخيلتها، تراجعت لا إرادياً عندما اسند كفيه على الحائط المحيط برأسها، حدق داخل عيونها بقوة والخبث يملؤه:
- عندك نية تديني حقوقي يعني ولا إيه ؟؟ .. لو مستعدة أنا ما أقدرش أقول لا بصراحة
دفعته بعزم بعيداً فتنحى منصاعاً بهدوء مستمعاً إلى كلماتها الحانقة: أنا ما اسمحلكش إنك تتكلم معايا بالطريقة دي .. أنت دماغك راحت بعيد مافيش حاجه من دي
ابتسم بمكر: إنتي اللي دماغك راحت بعيد .. أنا قصدي حقي ف إني أنام ع السرير كله لوحدي مش نص سرير
غمزها ملاحظاً توترها، أسرعت هي بإخفاءه قائلة بمكر أكبر: بس أنا كان قصدي بحقوقك واللي وصلني يعني هو العشا ... معلش أصلي ما عملتوش إنهارده وهتأكله من إيد طنط سمية بقى
أضافت متلكئة: لتكون افتكرت حاجه تانية ولا حاجه
دفن غيظه ممسكاً بمقبض الباب يقول بصرامة تُلغي أي كلمة اعتراض: بكره الساعة خامسة هأعدي عليكي نروح نشتري الحاجات اللي نقصاكي .. مش هأخلي أهلك يعلموني أصرف على مراتي
تركها صافعاً الباب خلفه، قررت الإنصياع لأنها هزمته في هذه المعركة مما أثر على ثقته بنفسه كما أثر بأعصابها وإن استمرت في جذبها سينفر منها دون رجعه ... ضارباً بمخططاتها في الحصول على الحب والنيل بقلبه محطمة أسواره وحصونه الدفاعية .. ضحكت حتى بدت نواجذها فما رأه منها إلى الآن ليس إلا بعملية استعداد لمعارك أكبر تحقق من خلالها فتوحات لا تُنكر.

0 التعليقات:

إرسال تعليق