الفصل الرابع عشر


خرج حمزه من الغرفة ليجد والد حياه "فاروق" يغادر غرفته فسأله عن وجهته، أجابه: هأتمشى شوية في الجنينة
- بس اللي أعرفه أنه حضرتك ما ينفعش تتعب نفسك وترتاح أكبر وقت وبلاش مجهود
أشاح بيده: دول مش فاهمين حاجه، الرقاد والقاعدة هما اللي بيتعبوني، بيحسسوني إنه ما بقاش ليا لازمة
- لا ما تقولش كدا .. حضرتك الخير والبركة
مد ذراعه: تعالى اسندني عشان السلالم دي هي أزمتي الكبيرة فعلاً
ابتسم حمزه: حاضر .. وهأتمشى مع حضرتك لو مافيش مانع
- لو بطلت تقول حضرتك دي هيبقى مافيش مانع
اتسعت إبتسامته: حاضر
أثناء سيرهما في الحديقة عاد فاروق يحقق معه مجدداً لكن براحة أكثر كأنه سمع عنه ما يسر: أنتوا عملتوا فرح ؟
- لا، كتب كتاب بس
توقف فاروق عن السير وحدق به مترقباً: ليه؟؟ .. فيها حاجه تمنع الفرح واللمة ؟؟
ابتسم حمزه بثقة أراحت فاروق قليلاً: لا طبعاً، حياه دي زينت البنات، عرفت تربي فعلاً يا عمي .. كل ما هنالك إنها كانت ناوية تسافر برا وكنت عايز اتأكد بأي شكل إنها هتفضل هنا ومش هتسافر وتسيبني فقررت إني أكتب كتابي عليها ونبقى نعمل الفرح لما أقابلك ونتفاهم وأحس أنك فعلاً تقبلني جوز بنتك
للعجب أن هذا فعلاً ما كان يفكر ويشعر به حمزه مما جعل تأثير الكلام يصبح أقوى وأقنع به فاروق المحنك بشدة، تبسم فاروق وسأله: بتحبها مش كدا ؟
تبادلا النظرات للحظات حتى ابتسم حمزه في النهاية وأومأ: ومين ما يقدرش يحبها ؟
ربت فاروق على كتفه: ربنا يخليكوا لبعض يا ابني
ثم اضاف بعد دقيقة من مواصلة السير: وناوي على إمتى تعملوا الفرح بقى؟ وأديك عرفت رأيي
- أنا سبت العمال يشتغلوا ف الشقة عقبال ما نرجع تكون خلصت إن شاء الله وتختار العفش وتجهز الشقة وقتها نحدد معاد للفرح
- وناوي تعمله فين ؟
نظر إليه حمزه وقد فهم مقصده: هناك مالناش قرايب وسكان العمارة عرفوا يوم كتب الكتاب عن جوازنا .. فلو حابب ممكن نعمل الفرح هنا
ابتسم فاروق لإجابته التي نالت إعجابه: كدا أحسن بردو
قال حمزه بتأني متذكرا تجاهله البارحة لحياه في الحديث أو النظرات كأنها ليست موجودة بينهم: بس لو فضلت زعلان من حياه ومش راضي تبصلها أو تكلمها هي نفسها مش هتقبل تقعد هنا أو حتى تعمل الفرح هنا
نظر إليه فاروق بعند: وأنت مش راجل ولا إيه ؟؟ .. كلمتك المفروض سيف على رقبتها
هز رأسه: دا يوم بتحلم بيه أي بنت ولو مشيت كلمتي عليها ف أي حاجه هتبقى ف دي بالذات مش هأعملها مش هأكسر فرحتها عشان كلمتي تمشي ..
شعر فاروق بالفخر تجاهه وأن حياه جديرة بالغفران ففي النهاية اختارت من يستحقها ويصونها، سأله حمزه السؤال الذي تمنى معرفة إجابته: رفضت شادي ليه يا عمي ؟؟
تنهد وبعد إلتزامه الصمت دقائق أجابه: لما طلب إيدها مني أول مرة سألت عليه والكلام ما ريحنيش .. أغلبهم ما يعرفوش عنه حاجه خالص والباقي قالولي كلام ما يدلنيش على حاجه .. وحياه دي بنتي وعمري ما أجوزها لأي واحد والسلام .. دي جوهرة يا ابني ما ياخدهاش إلا واحد فاهم وعارف قيمة اللي معاه عشان ما يفكرش يبيعها ف يوم من الأيام 
تأكد الآن حكمها الخاطئ على والدها، لم يكن يبغي سوى مصلحتها وأن تحيا حياه كريمة مع من يستحقها لكنها أساءت الظن به فيما أخطأ هو عندما لم يصارحها بالأسباب ليشاركها إتخاذ قرار يخص مصيرها، فلو أطلعها بنفسه على ما أخبره به الآن لكان قرار الرفض صادراً منها، لكنه أعاد ذلك إلى عقلية الرجل الشرقي الصعيدي الذي مهما حصل على درجات علمية يظل راغباً أن تكون كلمته فرماناً، يأمر فيُطاع.
***
دخل الغرفة لكن حياه لم تكن بها، قرر الذهاب ليأخذ حماماً ينعشه، لاحظ دفتر تتناثر على غلافه أزهار بنفسجية على خلفية وردية، كان أنثوياً بجدارة.
تناوله يقلب صفحاته فلم يجد سوى أسطر قليلة مخطوطة بداخله، قرأها بتروي وتمعن
" أول مرة قلبي يدق
طرت .. فرحت
توهت .. سرحت
بقى أنا عايشه ف قصة حب ؟!
لكن فجأة لاقتني وقعت
بابا رافض سيرة الحب ..!
غضبت وثورت
لكن بابا قاسي القلب
أخدت قرار .. وروحت هربت
لكن لاقتني .. رجعت ندمت
قولت يارتني ف يوم ما غضبت
واستحملت قسوة قلب
بكره مسيره عليا .. يحن!
يارتني سمعت
كنت ساعتها حفظت براءة قلب
                                                    عمره ما داق طعم الغدر ..  "
تنهد وأغلق الدفتر ثم وضعه مكانه، فكر في مشاعرها الآن بعد غدر من أحبت بها، تذكر أنه قد غُدر أيضاً ولكن ليس بتلك القسوة والدناة، انصرف إلى حمامه والأفكار ما تزال تدور برأسه دون رحمة.
***
تقربت حنان من مي مي أكثر فقد وضعتها سمية في المدرسة التي تعمل بها بسبب معرفتها بالمديرة سناء وتأكدها من اهتمامها بها.
تعلقت بها بشدة تشعر في كثير من الأحيان أنها ابنتها حقاً لكنها تعود وتقتل أمالها حتى لا يصدمها الواقع الذي يتلذذ بعذابها.
أتى خليل يوماً في منتصف يوم دراسي وراقبها وهي تلعب مع مي مي وبضعة أولاد أخرين منهم هدى خلال الاستراحة .. تبسم بحب فهو رغم زواجه من أخرى وإنجابه لهدى إلا أن عشقها ما يزال راسخاً في قلبه .. يعلم أن حنان تظنه توقف عن حبها يوم طلقها وتزوج منال .. لكنه طلقها قبل أن تطلب هي منه ذلك في حال زواجه فكرامتها كأنثى ترفض مثل هذا الوضع الشائك وكرامته كرجل تأبى أن يُذل بإنتظار تخليها عن فكرة الطلاق فقرر أن يسبقها بخطوة.
بالنسبة للمرأة الزواج والحب كالماء والهواء لا يستطيع المرء العيش بأحدهما دون الأخر بينما الرجل يستطيع الزواج دون حب فلا علاقة للأمرين معاً فلست معضلة بالنسبة إليه أن يحصل على أحدهما فقط .. بل يعد نفسه أكثر حظاً إذا تحققا معاً.
بسبب هذا المنطق لم يجد مشكلة من زواجه بمنال والتي تفهم منطقه ذاك بغريزتها الأنثوية والتي تخرج على فترات في شكل غيرة.
اقترب من حنان وحلقة الأولاد حولها، لمحته هدى فركضت إليه تصيح بسعادة، استقبلتها ذراعيه المفتوحتين على إتساعهما لكن لخيبته دق الجرس معلناً إنتهاء الراحة وبدء حصة دراسية جديدة فأطلق صغيرته رغماً عنه.
بعدما أصبح الملعب خاوياً نظر خليل إلى حنان: إزيك ؟
- الحمدلله
كادت تهم بالمغادرة عندما استدارت تسأله فجأة: فاكر السلسلة اللي عملتها لميّ مخصوص؟
أومأ متألماً: أيوه .. مالها ؟
- هو الجواهرجي دا عمل منها نسخة تانية ؟؟
نظر إليها مستغرباً سؤالها: لا ما اعتقدش .. بس ممكن اسألهولك
ابتسمت ممتنة: يا ريت يا خليل
- هو في حاجه ؟؟
- لا أبداً .. جه على بالي بس .. عن إذنك
تركته متجهة إلى غرفة المعلمات، عقد النية على معرفة سبب سؤالها ذاك لكن بمجرد تأكده من وجود نسخ أخرى لنفس القلادة أو عدمه.
***
تلفت حوله بعد أن ترجل من السيارة التي يطلق عليها البعض اسم "الضفدعة" والبعض الأخر "الخنفسة" .. بعد اطمئنانه إلى أمان المنطقة صعد إلى بناية حديثة في الطابق الحادي عشر.
دلف إلى الشقة فور أن فتحها رجل قوي البنية ... نسخة طبق الأصل عن الموجودين أمام الفيلا التي يحتلها لمنع أي فتاة من الهروب .. نظر الرجل يميناً ويساراً ثم أغلق الباب بهدوء.
صحبه أخر إلى الغرفة المقصودة مكتفياً بفتح الباب له ليدخل ثم إقفاله فور ولوجه إلى الداخل، نظر حوله ليجد على نور ضعيف أتى من مصباح صغير بجانب الباب مكتباً ضخماً يحتل الجانب الأقصى من الغرفة والأكثر إظلاماً يجلس عليه رئيسه يدق بأطراف أصابعه على المكتب بنغمة معينة.
يجلس على المقعد المقابل له ساعد رئيسه الأيمن "فواز" والذي يحفظ معالم وجهه على عكس رئيسه الأكبر، أشار له بالجلوس إلى الجهة المقابلة منه تفصل بينهما طاولة صغيرة موضوع فوقها مطفأة سجائر.
سأله فواز بجدية دالفاً إلى الموضوع مباشرة: أخبار البت اللي هربت إيه ؟
- حياه ؟
- أيوه .. والبت التانية اللي اسمها نيفين كمان
أجابه بحنق: نيفين قالب الدنيا عليها بس كأنها فص ملح وداب .. بس حياه أنا عارف مكانها إشارة منكوا بس وأروح أجيبها
نظر فواز إلى رئيسه كأنه يتلقى منه الأوامر عبر الظلام: لا، إحنا جبناك هنا عشان كدا .. إنسى موضوع البنتين دول وركز ف اللي معاك وبس
هتف بدهشة: إيه ؟؟ بعد اللي عملوه أسيبهم كدا ؟؟ .. طب ما غيرهم هيعمل زيهم لما يلاقونا سبناهم
فواز بصرامه شديدة: أنت تنفذ من سكات .. إحنا أدرى بمصلحة الشغل
- بس ..
أشار له بكفه أن يصمت بينما أخرج بيده الأخرى حزمة من الأموال وألقاها إليه، أمسك به مسرعاً كالكلب الذي رمى له صاحبه بالعظمه المفضلة لديه.
أمره فواز: ركز ف شغلك وبس .. وياريت كفايه أخطاء لحد هنا .. إتنين هربوا وواحدة ماتت .. والأخيرة وديناها ف مكان تاني قبل ما يحصلها حاجه هي كمان .. ركز مع البنات الباقيين وسيبكوا م اللي هربوا .. ورانا أهم من التفاهات اللي بتجري وراها دي
كان ذلك تنبيه إلى نهاية اللقاء فغادر المكتب واعداً بالطاعة ومع ذلك أضمر بداخله أنه لن يترك حياه خصوصاً وأنه سينتقم منها يوماً ما على عصيانه وتشجيع أخرى على فعل ذلك.
***
طرقات واضحة على الباب أيقظته من نعاسه، نظر حوله يتأكد من المكان الذي يرقد فيه فتذكر أنه مازال في سوهاج ضيفاً في بيت عائلة حياه، بحث عنها بعينيه في أرجاء الغرفة فوجدها تسجد بأحد الأركان وكان ضوء النهار ما زال مستتراً خلف ظلال الليل.
فتح الباب متخللاً خصلات شعره بأصابعه، تعجب لمرأى فاروق في تلك الساعة، سأله بإهتمام: في حاجه يا عمي ؟؟
تبسم فاروق: صلاة الفجر يا ابني .. أتوضى وأنزل هأستناك أنا ومحمود وأنس تحت ما تتأخرش
ألقى كلماته تلك وأختفى فوراً، عاد حمزه إلى الداخل من ثم توجه إلى الحمام، سلمت حياه من صلاتها وابتسمت بفرحة.
***
انطلق حمزه يحث خطواته على الإسراع ليلحق بمحمود، نادى عليه فتوقف الأخر مستغرباً.
بادره حمزه مازحاً: إيه ياعم .. مركب في رجلك عربيات سباق
لوى شفتيه بملل وهم بالمغادرة لكن كلمات حمزه اللاحقة أوقفته: استنى أنا جاي معاك
سأله ببلاهة: جاي معايا فين ؟؟
- مكان ما هتروح .. أنا أصلي مش واخد على قاعدة البيت دي .. هأجي معاك ولو أقدر أساعدك ف حاجه مش هاتأخر
رأى محمود في ذلك العرض فرصة لا تعوض، سينفرد بحمزه لمدة ويستشف نواياه؛ فهو رغم غضبه على شقيقته المستمر حتى الآن إلا أن أمرها يخصه مهما كانت الخلافات بينهما، هكذا عوده والده ورباه .. فحتى وإن كان الإختلاف بينه وبين أشقائه كالمسافة بين السماء والأرض يجب ألا يمنعه ذلك عن الدفاع عنهم والقلق على مصلحتهم.
قام حمزه بجولة في أرجاء الأراضي يرى المزروعات والفلاحين يعملون في الأرض، أخبره محمود أن هذه الأرض شراكة بينهم وبين عائلة عبد الرحيم التي تقطن على الطرف الأخر من البلده.
- عم عبد الرحيم دا صاحب أبويا أوي .. درسوا سوا ف القاهرة وقعدوا هناك من ثانوي كمان .. والإتنين درسوا في نفس الكلية .. كلية تجارة .. بس تفكيرهم لما رجعوا ما عجبش باقي الناس هنا .. عشان كانوا بيتمردوا على أغلب العادات .. كفاية أنه أبويا اتجوز أمي –الله يرحمها- ودي كانت زميلته وهي اللي شجعته يكمل وياخد الماجيستير .. وبعدها لما هو بعت حياه وزهرة يتعلموا في القاهرة وكمان عم عبد الرحيم بعت بنته سلمى صاحبة حياه تتعلم هناك بردو .. بس حياه وسلمى قعدوا عند عمة سلمى اللي عايشة في القاهرة لكن زهرة كانت من سكان مدينة الطالبات
- أه .. هو تفكير البنت مالهاش غير بيت جوزها دا لسه موجود ؟؟
- مافيش حاجه بتنقرض نهائي خصوصاً الحاجات اللي الأهل بيورثوها لولادهم كأنها حاجات مسلم بيها واللي يخرج عنها زي اللي يكفر بالظبط .. فيه ناس كتير فعلاً قررت تتغير وتعترض على العادات دي بعد ما شافوا زهرة وسلمى وحياه .. رغم أنهم اتعلموا في القاهرة إلا أنهم زي ما هما بس ...
فهم سبب توقفه فأكمل عنه: هروب حياه رجع الأفكار دي تاني وأتهموا دراستها في القاهرة أنها السبب في هروبها مش كدا ؟؟
أومأ مؤيداً: بالظبط .. وزي ما أنت عارف في ناس مصلحتها ف جهلنا وإن نص المجتمع المتمثل في البنات يبقى جاهل والنص التاني يضحكوا عليه أو يتصرفوا معاه بطرق تانية
- صحيح .. أنت ما قولتليش أنت دارس إيه ؟
ابتسم: أنا خريج كلية زراعة .. وأنت ؟؟
- مهندس معماري خريج فنون تطبيقية
انتبه محمود وتابعا الحديث أثناء استراحتهما أسفل شجرة مانجو: ما شاء الله، بتشتغل فين بقى؟
- بأشتغل في شركة العالمية ف القاهرة .. كنت بأسافر أنفذ مشاريع ف دول كتير ومحافظات مختلفة
استفسر محمود: طب ولما تسافر هتسيبها فين ؟؟
ابتسم حمزه: هتقعد مع أبويا وأمي .. وبعدين أنا خليت شغلي محافظات بس يعني كل كام يوم هأجي أبات يوم ولا حاجه أطمن عليها .. ما تقلقش
ألقى عليه نظرة ريبة، وفجأة ارتفعت ضجة وصخب .. رجال يركضون من كل حدب وصواب ونساء تولولن .. نهض محمود وتبعه حمزه متجهين إلى نفس الجهة التي يتسابق إليها الرجال.
سأل محمود بصوت مرتفع أحد الرجال: هو في إيه؟
أجابه الرجل لاهثاً: بيچولوا إن بيت عوض بيولع !
تركه الرجل مهرولاً فلحقا به والفزع احتل ملامحهما، وصل إلى حيث يتجمهر الناس وقد ارتفعت النيران في المنزل، كان عدد من الرجال يهرول يعبأ الدلاء بالمياه، تقدم رجل يتقافز بين الناس وقد ثنى طرف جلبابه أسفل إبطه وكان حافياً والطين يغطي هيأته فيبدو أنه كان يعمل في الأرض عندما جاءه الخبر.
- بنتي ومَرَتي چوا يا عالم !!
تصاعدات الصرخات من النساء وزادت سرعة الرجال في إحضار الماء، لكن يبدو أن كل هذا لم يقنع النيران بالهدوء أو الإنخفاض ولو قليلاً بل أنه أثارها لتزداد أكثر فأكثر.
أمر محمود أحد الرجال أن يذهب ويبلغ المطافئ؛ فيبدو أن الحريق لن ينفض في وقت قريب بكمية المياه القليلة تلك إنما هو بحاجه إلى دفعة مياه قوية وكثيفة.
اندفع حمزه بين المحتشدين غير مهتم بمحاولات الرجال للإمساك به ومنعه، تناول سجادة من الخوص مفروشة أمام الدار ثم اقتحم بها النيران.
***
أتى أحد العاملين لديهم يطلعهم على النكبة وما حدث، ارتدى فاروق عباءته ولحق بالرجل وحياه تتبعه دون أن تستمع إلى أوامره في البقاء بالداخل، فلقد هالها معرفة أن حمزه داخل الحريق.
ما كادوا يصلون حتى خرج حمزه يحمل طفلة بالرابعة من عمرها وقد لفها بالسجادة ليحميها من دخان الحريق، تركها أرضاً على مسافة آمنة ثم عاد  إلى الداخل عائداً بزوجة الرجل.
ركضت حياه إليه تدقق بكل خلية صغيرة به تتأكد أنه لم يصب بمكروه، ومع ذلك لم يخف قلقها وسألته بصوت متهدج: حصلك حاجه ؟
هز رأسه نافياً: لا أنا كويس الحمدلله
انفجرت في البكاء راحة وحمداً لله على عدم إصابته بمكروه، لم يدري كيف يهدئ من روعها كل ما فعله أن جذبها بين ذراعيها يربت عليها ويهدهدها.
حضرت سيارة الإسعاف والمطافئ لتنغمس كل واحدة في عملها، أمرهما فاروق أن يعودا إلى المنزل ويرتحا بينما سيظل هو ومحمود هنا حتى يستتب الأمن من جديد وينتهي كل من مهمته.
هز حمزه رأسه متقبلاً الأمر غير شاعر بأن هناك دافعاً لم يلحظه سبب ذلك الأمر وصحب حياه إلى المنزل، استقبلتهما زهرة وعائشة بالكثير من الاسئلة والاستفسارات عما حدث مما جعل حمزه يجيبهم بإختصار ثم يستأذن بالصعود للأعلى.
بمجرد أن اختليا معاً حتى انفجرت حياه به تنهره وتوبخه: أنت ليه تدخل النار كدا ولا أكن فيه حاجه، كنت هتموتني من الخوف، حرام عليك
نظر إليها صامتاً للحظات قبل أن يقول بهدوء: كان فيه طفلة وأمها في النار جوا عايزاني أسيبهم كدا عشان خايف على نفسي؟؟ .. مش هأشوف حد محتاج مساعدتي وأديله ضهري يا حياه وأنا متأكد إنك لو كنتي مكاني كنتي عملتي كدا ويمكن أكتر
نظرت له ببلاهة وهي تجلس على طرف السرير: هو إيه اللي حصل ؟
لم تسمع من الرجل الذي نقل الخبر إلى والدها سوى أن حمزه ألقى بنفسه بين ألسنة اللهب فلم تعد تسمع أو تعي أي شئ أخر.
- حصلت حريقة ف بيت واحد، ومراته وبنته كانوا جوا ومش عارفين يخرجوا
زفرت بحدة وفركت وجهها براحتيها، أتجه إلى الحمام ينفض عنه أثار الدخان وغبار الحريق، تركها تستجمع قواها وقدراتها على التفكير بهدوء ووزن الأوضاع.
***
جلست تتابع نشرة الأخبار مع جدتها لكن عقلها ليس حاضراً، يتشتت بين أفكارها تائهاً .. لا يقدر على تفسير ما يحدث .. إن كانت ابنتها فكيف وصلت إليهم وإن لم تكن فقد ضاع منها الأمل.
ابتهلت أن يرد عليها خليل في أقرب فرصة .. وإن كان بالسلب، فقط يضع حداً لدوامات أفكارها ويجمع شتات نفسها وقلبها المكلوم .. كأنه استجاب لدعواتها الداخلية فدق جرس الباب.
نهضت تفتحه تحت أنظار جدتها المتمعنة في ترقب، فهي لم يخفى عليها تغير حالها لكنها تعبت من الحديث معها دون جدوى، لقد تجادلت معها حتى تقبل عرض جارهم الطبيب بدر للزواج منها لكن هيهات فقلبها مازال متمسكاً بمن غدر وباع.
نظرت إلى خليل بدهشة وقلق، بادرها: أنا أول ما قدرت أوصل لحاجه جتلك على طول
لعقت شفتيها الجافة من القلق وتساءلت بصوت هامس: ولاقيت إيه؟
تنهد سانداً جذعه على إطار الباب واقفاً أمامه، ضيق ما بين عينيه يرصد كل تعبير يظهر على وجهها علَّه يستشف سبب ما بان على ملامحها: روحت المحل بس مع الأسف .. الجواهرجي اللي عمله مات من سنتين تقريباً
ارتخت أكتافها بإحباط لكنها عادت تنتبه عندما استدرك حديثه: بس ابنه هو اللي مسك المحل بعده فسألته يمكن يكون عارف ..
حثته على المتابعة: هـــا .. وقالك إيه ؟
ضاقت عيونه أكثر: قال إن مافيش سلسلة تاني شبها .. عشان دي كانت أخر حاجه أبوه عملها قبل ما تحصله حادثة ويدخل في غيبوبة
شحب وجهها فجأة وغامت الرؤية أمام عينيها، اعتدل خليل بفزع ثم أسرع يسندها قبل أن تقع أرضاً فاقدة الوعي، أتت الجدة مسرعة لمرأى اهتزاز جسدها في الهواء.
صاحت الجدة: أنت عملتها إيه تاني؟! مش حرام عليك اللي هي فيه ! .. ناوي ترحمها إمتى يا أخي
لم يهتم لصراخها بوجهه كذلك منعها له من الدخول، حمل جسد حنان المتهالك وأدخلها الغرفة فيما أسرعت الجدة بلا حول ولا قوة تستنجد بجارها الطبيب.
***
اجتمعوا على الطاولة مساءً لتناول العشاء، والحديث الدائر لم يكن سوى عن الحادثة التي لم يتوقف الجميع عن الحديث عنها.
روى محمود سبب الحريق معلقاً: مهما نقولهم بلاش حرق قش الرز دا خصوصاً جنب البيوت والأرض .. اللي عايز يحرقه يروح حتى بعيد لكن مافيش فايدة
سألته عائشة بقلق: طب وأم سعدية وسعدية عاملين إيه دلوجت؟
أومأ: الحمدلله بخير .. لولا حمزه وأنه لحقهم قبل النار ما تطولهم كان زمانهم في خبر كان
زهرة شاكرة: الحمدلله .. قدر ولطف
فاروق باسماً: ربنا يبارك فيك يا حمزه يا ابني .. الناس دول هيفضلوا شايلينلك الجميل دا طول عمرهم ..
ابتسم حمزه: أنا ما عملتش حاجه يا عمي .. دا واجب وأي حد المفروض يعمله
ربت محمود على كتفه مشجعاً: عاش يا بطل
تمتم أنس شارداً: ياااه لو كنت موجود بس .. كنت دخلت معاك أو سبقتك كمان .. يلا المهم بقيت البطل في البلد دلوقتي وكل واحد هيجيب في سيرتك ولا بات مان
كانت حياه تمسك ملعقتها تدفع بها الطعام يميناً ويساراً صامتة، تستمع إلى تشجيع الجميع وسعادتهم بما فعله حمزه، لم تعلق لكنها فجأة صرخت ناهضة: كفاية بقى .. أنا نفسي أفهم بتشجعوه وتباركوا له على إيه ؟؟ .. إنه رمى نفسه في النار وكان هيموت ؟؟
حدق بها محمود بغيظ قائلاً بسخرية: لا عشان فكر ف ناس ما يعرفهمش وف حياتهم قبل ما يفكر ف نفسه وحياته هو بكل أنانية .. عكس ناس
لمعت الدموع بين جفونها لكنها أمسكتها وركضت إلى غرفتها بسرعة، نظر فاروق إلى ولده بغضب، بينما نظرت له زهرة بلوم: ليه كدا يا محمود بس؟
- إنتي ما سمعتيش الكلام اللي يفور الدم يعني ؟؟
زفر فاروق متمتاً بصوت حزين: يعني مانتش عارف سبب الكلام دا إيه ؟
أخفض محمود رأسه، نقل حمزه نظراته الثاقبة بينهم محاولاً فهم الحزن الذي ظهر على وجوههم جميعاً فجأة .. أجابه فاروق قبل أن ينطق لسانه بالتساءل الذي يدور بعقله: حياه متعقدة من الحرايق والنار ..
أكمل موضحاً أكثر: لما كان عندها تمن سنين كان عندها قطة صغيرة كانت بتحبها أووي وكانت بتلعب معها على طول .. لحد ما ف يوم وهي بتلعب معاها بره البيت القطة جريت منها وما عرفتش توصلها .. فضلت تدور عليها لحد ما لاقتها ف وسط النار وكان صوت النونوه بتاعتها عالي وكأنها بتستنجد بيها .. حياه كانت هترمي نفسها ورا القطة عشان تنقذها بس كانت النار اتمكنت منها وحتى لو لحقتها كانت هتعيش في عذاب بسبب النار اللي طالت أجزاء كتير منها .. وقتها لحقناها بالعافية وفضل محمود ماسكها عشان ما تروحش عند النار ورجعها البيت بالغصب وهو بيجرها وهي مش عايزه تسيب القطة ..
برقت بضع دمعات في عيونه متابعاً: وقتها لما دخلت البيت لاقيتها منهارة من العياط ورمت نفسها ف حضني وقعدت تقولي "هي القطة عملت حاجه وحشة عشان النار تاخدها؟ .. هو أنت مش قولتلي اللي بيغضب ربنا، ربنا هيرميه في النار؟ .. طب القطة وقعت ف النار ليه؟ إيه اللي عملت خلى ربنا يغضب منها .. عشان بتلعب معايا ؟"
وقتها كل اللي عملته إني طبطبت عليها وقعدت أفهمها إنه دي نار بسبب حرق قش الرز ودي غير نار ربنا اللي بتبقى بعد ما الناس كلها تموت وبتبقى ف يوم القيامة .. من ساعتها وهي بتتعب كل ما تشوف حريق أو تسمع عنه ... اللي تعبها إنهارده إنك جوزها يا حمزه خافت تخسرك زي ما خسرت قطتها زمان .. ما تزعلش من كلامها يا ابني .. دا دليل على إنها بتحبك وإنك غالي عليها
أومأ حمزه سارحاً بعيداً، غير مدرك للوم الأب ابنه ومطالبته بالإعتذار إلى شقيقته.

0 التعليقات:

إرسال تعليق