دلفت إلى غرفة جدتها، وجدتها تقرأ في كتاب الله بصوت
هامس، ابتسمت وناولتها دواءها: يلا يا ست الكل، اشربي دواكي عشان تخفي وتبقي مية
فل وعشرة
صدقت مغلقة المصحف وهي ترسم بسمة على شفتيها: يا بنتي
أنا عندي حاجة وسبعين سنة مش سبع سنين
- ولو يا ست الكل، دا ما يمنعش إني أدلعك، الدلع من حق
الصغير والكبير
تناولت الجدة دواءها ثم ربتت على مكان عند قدميها، جلست
حنان منصاعة متنهدة؛ هذه علامة جدتها بأنها تعرف أن هناك ما يزعجها وتحاول إخفاؤه
خلف بسمتها ومزاحها.
أقرت: خليل عايز يقدم لبنته في المدرسة اللي أنا شغاله
فيها
فغرت فاهها دهشة: مش معقول، إيه البجاحه دي !
تنهدت: مش عارفه يا تيته، أنا تعبت بجد
أجهشت في البكاء، ضمتها جدتها إلى صدرها الحاني تواسيها
وتدعمها صامتة، تحدثت حنان بما يجيش بصدرها: هو ليه مش حاسس بالحرقه اللي ف قلبي،
ليه بيفكرني دايماً بغلطة أنا عمري ما نستها وبأندم عليها لحد دلوقتي، أيوه قصرت ف
حق بنتي بس مش يجيب سكينة تلمه ويفضل كل شوية يشق قلبي بيها ... أنا تعبت بجد
والله أنا إنسانه من لحم ودم .. بتجيلي أوقات بأحس فيها إنه الموت أرحملي من
الحياه دي بس بعدين بأرجع استغفر ربنا.
ربتت على شعرها: دا اختبار من ربنا ولازم نصبر، ادعي
وربنا هيستجيب إن شاء الله بس ف الوقت المناسب ليكي ولبنتك، ما تخليش عندك شك ف
كدا أبداً، ربنا هو الأعلم بالأنفع والأصلح لينا من نفسنا حتى
هدأت حنان وقل نحيبها حتى غطت في نوم عميق، ظلت تدعو لها
جدتها بالخير وراحة البال، تلك الدعوة التي تتكرر كثيراً دون أن نعرف أهميتها حتى
نفقدها.
***
لا تعلم كم مضى عليها تركض جلَّ ما تعلمه أن قلبها يكاد
يتوقف من كثرة دقاته وأنفاسها توشك أن تذهب بلا رجعة دون القدرة على التقاطها.
توقفت أخيراً أسفل عمود إنارة في الطريق، نظرت حولها
هناك قلة من الناس تسير، بعض المحلات ماتزال ساهرة في إنتظار ساهراً أخر يرغب
بشراء شئ ما.
إن المحروسة تختلف تماماً عن بلدتها، مهما كان الوقت
متأخراً أو مبكراً توجد أقدام تروح وأقدام أخرى تجيء، تأملت كل مكان تسقط عينيها
فوقه ولكنها لم تجد مكان تلجئ إليه، خائفة أنها إذا لجأت إلى أحدهم يستغلها، فقد
استغلها من رسم عليها الحب بكلماته فما بال من لا يعرفونها بالأساس؟
احتارت ماذا تفعل، لا تعرف أين هي ولا إلى أين تذهب، هل
اكتشفوا غيابها ؟، يبحثون عنها الآن، اقتربوا من مكانها ؟؟.. تساؤلات تساؤلات بلا
انتهاء.
ارتفعت الإقامة من مسجد قريب من محل وقوفها، اتجهت إليه
حيث وجدت قلة قليلة تدلف إلى المسجد لتأدية صلاة الفجر، دق قلبها بسعادة عندما
وجدت باب مصلى السيدات مفتوحاً.
تقدمت منه مسرعة كأنها تخشى إغلاقه في وجهها إن لم تسرع،
دخلت إليه ووجدت أدوات التنظيف مركونة جانب الباب من الداخل، فهمت أنه مفتوح في
تلك الساعة ليتم تنظيفه قبل صلاة الجمعة.
نظرت إلى نفسها، لقد اتسخ جسدها ليس من الغبار والطريق
فحسب بل من المكان الذي جاءت منه، نزعت حذائها مكسور الكعب حيث كسرته لتستطيع
الركض بسرعة وخفة أكبر لأطول مسافة ممكنه، لمحت مجموعة من العباءت والتنورات
والأخمره موضوعة على رف جانبي.
تناولت إسدالاً واتجهت به إلى الحمام، تحممت وهي تفرك
جسدها بكفيها كأنها تريد سلخ جلدها عن عظامها، انتهت وإرتدت الإسدال وألقت ما نزعته
عنها في سلة القمامة، وقفت في إتجاه القبلة تقيم صلاتها حامدة الله على إنقاذها
شاكرة فضله عليها.
جاء الإمام ليغلق مصلى السيدات لكنه وجدها واقفة تقوم
بتنظيف المسجد بهمة ولم تشعر بقدومه، تبسم ثم انصرف دون أن يزعجها عائداً إلى مصلى
الرجال ليتلو بعض آياته حتى الشروق.
***
جمعت أغراضها في عدة حقائب، صرخت تخبر جدتها: أنا نازله
يا تيته .. مش عايزه حاجه؟
جاءت جدتها على مهل تدعو لها بالتوفيق وحسن المأب ..
انطلقت هي في طريقها إلى المسجد فاليوم هو الجمعة؛ حيث تحمل العديد من الكتب
الدينية والمصاحف اللائي جمعتهن من زميلاتها في المدرسة، فمن يفيض لديه أي شيء
تقوم بتجمعيه وإرساله إلى مكانه المناسب فالكتب الدراسية إلى الجمعيات الخيرية
كذلك الملابس وكتب الثقافة العامة بينما الكتب الدينية بعضها للجمعيات الخيرية
ولكن الأغلب تذهب إلى أحد المساجد واليوم الدور على أكبر مسجد في منطقتها.
ذهبت مبكرة عن موعد أذان الظهر بأكثر من ساعة كاملة
لترتب الكتب في المكتبة التي تحتل حائطاً بأكمله في مسجد النساء وتعطي بعضاً منها إلى
إمام المسجد ليرتبهم في مسجد الرجال من ثم تشعل البخور ليملئ المسجد برائحة فواحة
تعطيه انتعاشاً فوق إنتعاش تواجد المرء به.
صعدت إلى مصلى السيدات لكنها وقفت متسمرة مكانها، من تلك
التي تتوسد كفيها وتضم ركبتيها إلى صدرها ؟؟
وضعت الحقائب متناولة إحداها وعادت تنزل الدرجات من
جديد، كان الإمام على وشك الدلوف إلى مصلى الرجال عندما نادته، توقف باسماً وبدأ
الإقتراب منها يسألها عن حالها وحال جدتها، طمأنته ثم سألته بالمثل عن حال زوجته
وأولاده.
عادت تسأله متعجبة: هي مين اللي نايمه في المسجد فوق دي
؟
هز كتفيه حيرة قائلاً: مش عارف يا بنتي، أنا جيت أقفل
المسجد بعد صلاة الفجر لكن لاقيتها بتمسح مصلى السيدات فسيبتها ورجعت اقرأ قرآن
لحد ما تخلص بعد الشروق طلعت تاني لاقيتها بتقرأ في كتاب الله، ما قدرتش أقولها
أخرجي عشان هأقفل، دا بيت الله وما أقدرش أقفله ف وش أي حد ممكن يكون محتاج ..
واللي لاحظته عليها إنها محتاجاه دلوقتي جداً
أومأت متفهمة وسلمته نصيب مصلى الرجل من الكتب والمصاحف
ثم عادت تصعد إلى مصلى السيدات وتبدأ في رص الكتب داخل المكتبة بنظام وترتيب معين.
***
اصطحب أحمد زوجته بعد أن تطيب بأفضل العطور واغتسل كما
أوصى الرسول –عليه الصلاة والسلام- وانطلق برفقة سمية إلى المسجد، هذه عادتهما أن
يذهبا كل جمعة سوياً إلى المسجد للصلاة وفي طريق العودة يشتريان مستلزمات البيت
وبعض الحلوى والفاكهة لأهل الدار.
استيقظ حمزه ولم يجد غيره هو ومي مي في المنزل تساءل في
نفسه عن مكانهما حتى تذكر عادة والديه، استحم وتطيب ثم تناول سواكه بعد أن ألبس مي
مي إسدالها فلم يكن بيده حيلة أخرى فقلبه لن يطاوعه بتركها وحيدة في المنزل، كانت
البراءة تشع من عينيها متناغمة مع ما ترتديه ووجهتهما.
كان قلقاً أن تشعر بالحرج داخل مسجد قد لا يكون به سوى
الرجال والصبيان الصغار فقط، لكن لحسن الحظ كانت توجد فتاتان صغيرتان برفقة والدهما
انسجمت معهما مي مي بشدة، كذلك عندما علم عدد من المصلين أنها لا تستطيع التحدث
أشفقوا على حالها وبدأوا في مداعبتها.
اتسعت إبتسامته عندما رأى إبتسامتها، لقد نسي تماماً أمر
مدرستها ولم يخبر والدته بشأنها، دعى أن يتذكر في أقرب وقت ممكن.
***
فجأة سمعت صرخات تصدر من خلفها، استدارت لتجد الفتاة
نائمة تهزي في سباتها، تركت ما بيدها وإتجهت إليها لا تدري ماذا تفعل ثم وجدت أنه
يجب إيقاظها لا مفر.
هزتها من كتفيها مطمئنة: اصحي اصحي، ما تخافيش إنتي هنا
ف بيت ربنا مش هيحصلك حاجه ما تقلقيش
انتفضت جالسة وهي تنظر حولها بذعر لم تره حنان من قبل
على وجه بشر، ابتسمت لتبث بداخلها الإحساس بالأمان: مافيش حاجه، دا كان مجرد كابوس
ناولتها زجاجة مياه من حقيبتها لتروي ظمأها، تجرعت
الزجاجة بأكملها من ثم بدأت في الإسترخاء رويداً رويداً، عند ذلك الحد نهضت حنان
وتركتها عائدة إلى مهمتها في ترتيب الكتب مرة أخرى.
راقبتها حياه لدقيقتين ثم نهضت تتناول الكتب من الحقيبة
في صمت وترصهم بنفس ترتيب حنان بالضبط، لما رأتها حنان تفعل ذلك ابتسمت وانشغلت
بما بين يديها.
مع ارتفاع أذان الظهر في الأجواء كانتا قد انهيتا
مهمتهما، أشارت لها حنان بأن تذهب لتتوضأ.
ارتفعت الخطبة تصل إلى أذان الجالسين في المسجد، كانت
حياه منزوية في أحد الأركان وحيدة أما حنان فكانت تداعب الأطفال الذين حضروا مع
أمهاتهم وتوزع عليهم بعض الحلوى التي لا تخلو حقيبتها منها.
كانت تقيم سداً بين جفنيها لتمنع شلال الدموع من التدفق
لكن عندما عبر الإمام عن موضوع الخطبة وقبل أن يبدأ في التحدث عنه كان السد قد
إنهار وتحررت المياه دفاقة من حبسه وانهمرت بلا توقف أو حساب.
إن الخطبة كانت عن "التوبة" .. شعرت أنها
رسالة إليها من الله –عز وجل- يساندها على ما أقدمت عليه ويؤكد لها حسن تصرفها.
بعد انتهاء الخطبة وإقامة الصلاة .. اتجهت حنان إليها
تعاونها على النهوض لتقف في صف الصلاة.
همت حنان بالمغادرة ولكنها تذكرت تلك الفتاة التي لا
تعلم عنها شيئاً فعادت إليها تجلس إلى جوارها متسائلة: إنتي مش ناويه تروحي ؟؟
أجابتها بحزن: ماعنديش مكان أروح له
علت الدهشة وجهها: إزاي يعني ؟؟
كادت حياه تروي لها قصتها عندما تذكرت كلمات فتون بأن لا
تثق بأحد غير نفسها، لاحظت حنان ترددها فابتسمت: طب إيه رأيك تيجي تتغدي معايا أنا
وجدتي ؟، بعد كدا اعملي اللي يريحك
لم تجبها فأكملت: الشيخ حسين إمام المسجد ما روحش بيته من
الفجر عشان خاطر إنتي موجودة ومش متعود يخرج حد من بيت ربنا، والراجل عنده بيت
وعيال
زفرت بحدة ثم نهضت معها مشيرة بموافقتها، رأت الحذاء
مكسور الكعبين وكذلك عدم نزعها للإسدال الخاص بالمسجد لكنها لم تعقب على شيء فقط
اكتفت بمرافقتها لها.
***
تسير ولكن دون أن تلمس قدميها الأرض بسبب قفزها المستمر
من السعادة تمسك بإحدى يديها بلونة منتفخة على شكل وجه ميكي ماوس والأخر تتعلق بكف
حمزه والذي أجبرته على حمل الحلوى التي منحها إياها من بالمسجد.
شعر بسعادة كبيرة لسعادتها بل إنه ضحك من كل قلبه كما لم
يفعل منذ زمن، إن عالم الأطفال ملئ بالحب والضحك كما السعادة لا مكان للحزن أو
الخيانة كأنهم في عالم يتنزه عن النواقص .. عالم تحميه الملائكة من قذارة البشر.
وصل إلى المنزل وسلم مي مي إلى والديه متجهاً إلى غرفته،
استغرقه التفكير في كل ما تعرض له من غدر وغيره من نواقص، عاد الحنق والغضب إليه
مرة أخرى.
هب من مكانه وإرتدى ملابسه الرياضية وخرج إلى حيث عائلته
تتابع حلقة ما على التلفاز.
رأته والدتها فتساءلت: رايح فين يا حمزه؟
- هأروح الچيم شوية
- هو إحنا بنشوفك غير الجمعة وياريت كل جمعة دي كل فترة
والتانية بس
- ما أنا أصلاً كنت قاعد ف أوضتي هتفرق حاجه أوضتي عن الچيم ؟
قالت بحنق: ما أنت اللي حابس نفسك لوحدك ومش عايز تقعد
معانا
أمسك والده بيد سمية: خلاص يا سمية سيبيه يعمل اللي
يريحه وأدينا قاعدين مع بعض لحد ما يرجع
أشار برأسه إلى حمزه حتى يذهب، ابتسم له ممتناً لإنقاذه
من بين براثن لوم والدته.
بعد أن أغلق باب الشقة خلفه زفرت بضيق: أنا مش عارفه
هتفضل تقف ضدي وف صف الواد دا لحد أمتى يا أحمد !
- مش ضدك ولا حاجه، بس هو شكله مضايق والچيم لما يلعبله فيه كام لعبه على كام حركة هيخليه يهدا شوية
تنهدت: وياترى إيه اللي ضايقه ؟
إلتفت إلى التفاز من جديد متمتماً: لو حابب يتكلم هيجي
يقول من غير ضغط يا سمية !
نظرت له بحنق وهي تعض شفتيها من الغيظ، هكذا هو زوجها لا
يعطيها رداً شافياً.
***
نسيت ترددها في الدخول إلى منزل امرأة لم تعرف عنها سوى
اسمها الذي أطلعتها عليه في طريقهما ليست حتى متأكدة من صدقها.
انسجمت مع مزاح الحفيدة مع جدتها وجو الطيبة الذي يكسو
المكان، بعد الغداء انصرفت الجدة لترتاح في غرفتها قليلاً معللة ذلك بأن الدواء
الذي تتناوله يجعل جسدها يصل إلى أعلى حالات استرخاءه.
لا تعرف ما سبب فتح الحديث ولكن النتيجة كانت رواية حنان
لفقدانها ابنتها وبعد ذلك طلاقها وزواجه من أخرى حتى وصلت إلى إطلاعها عن رغبته في
الحاق ابنته بالمدرسة التي تعمل بها.
أشفقت على حالها مدركة أنها ليست الوحيدة التي تعاني في هذه
الدنيا، لعبت بها الحياة أخذة سعادتها في لحظة وبدلتها شقاء لكن الدنيا لا تكتفي
بشخص دون سواه.
لم تجد بُداً أمام صراحة مضيفتها سوى أن تقابلها بصراحة
وصدق مماثلين، روت لها حكايتها منذ تعرفت عليه وكيف هربت من بين يديه.
- لسه فيه ناس بالشر دا ؟
- أنا كنت فاكره الدنيا لسه بخير طلعت أنا اللي بعافيه
هههههه
تبسمت: طب وناوية تعملي إيه ؟
- مش عارفه
- لما فكرتي في الهروب ما فكرتيش ترجعي لأهلك ؟
ملأت الحسرة عينيها: ارجعلهم إزاي وأنا كدا بعد اللي
عمله فيا ؟؟ أنا اللي فضلته عليهم ولازم أتحمل نتيجة أعمالي
- بمعنى؟
- هأدور على شغل وأشوفلي شقة أعيش فيها وأسس حياتي وقتها
لما أقف على رجليا أبقى أفكر أرجعلهم بس أكيد مش وأنا مكسورة
- وإنتي فاكره اللي بتقوليه دا بالساهل ؟
استندت للخلف وهي تزفر: مش عارفه بقى
خطرت على بالها فكرة: وإيه رأيك تعيشي معايا هنا ؟؟،
أديكي شايفه مافيش غيري أنا وجدتي
- بس أنا كدا هأتقل عليكوا .. كمان أنتوا
- تتقلي إيه بس، دا إنتي أدتي حس للمكان والله وأهو ألاقي
حد سنه قريب من سني أعرف أخد وأدي معاه ف الكلام .. بعدين الناس بتبان من أول مرة
ياما عاشرنا ناس وباعونا
- يعني مش هأزعجكوا ؟
- بس يا شيخة اسكتي، أنا بأقول إيه وهي تقول إيه ..
المهم المدرسة اللي شغاله فيها طالبة مدرسين، إيه رأيك تقدمي فيها؟
- طب وهما يقبلوا بيا ؟؟
- إنتي خريجة إيه؟
- ألسن إيطالي
- طب حلو جداً، مش الإنجليزي بتاعك كويس؟
- أه
- خلاص تمام أوي كدا، هما عايزين مدرسة إنجليزي، أنا هأكلم
المديرة وأشوفها بس ما أعتقدش هيرفضوا أقل حاجه هتقبلك مؤقت لحد ما تلاقي حد متخصص
أكتر
تبسمت حياه فلقد شعرت برضا الله عليها منذ عاونها على
الهروب وصولاً إلى لقاءها بحنان التي حنت عليها كأختها زهرة التي تفتقدها بشدة.
***
دخل إلى النادي الرياضي يتلفت حوله بحثاً عن صديقه، وقعت
عينيه عليه أخيراً فاقترب منه حانقاً، كان يتصبب عرقاً يكاد يُغرق النادي بأكمله،
وقف يتطلع إليه صامتاً حتى ينتهى.
ألقى الأثقال التي يرفعها بعد أن استبد به التعب وارتمى
أرضاً بجوارها يلتقط أنفاسه، لوى مُسعد شفتيه: إيه اللي جرا ؟
من بين أنفاسه أجاب: مفيش، طاقة زيادة وحبيت أخرجها
- طب قوم خلينا نروح نقعد ف كافيتريا ولا حاجه
- أنت مش ناوي تلعب
- لا أنا ماعنديش طاقة أصلاً عشان أخرجها
ضحك حمزه: ماشي خليك معصعص كدا مافكش حتت عضل واحدة
عقد ذراعيه معدلاً نظارته فوق أنفه: سيبنالك أنت العضلات
يا عم المجانص
- ههههههه طب استنى هاستحمى وأغير هدومي وأجي معاك
انطلقا إلى أحد المطاعم ليتغديا سوياً ويتحدثا قليلاً،
دار الحوار بين العمل والمواضيع العامة وحاول مُسعد عدم الإحتكاك بأي شيء خاص فهو
رغم مزاحه الشبه دائم إلا أنه يفرق بين وقت الدعابة ووقت الصمت، ظل حمزه شاكراً له
إشغاله بعيداً عن التفكير الذي يفتك برأسه فتكاً كلما شرد لحظات قصيرة.
***
بعد يومين بدأت حياه العمل مع حنان بنفس المدرسة، زاد
احترامها لحنان أكثر عندما علمت بقصة الفتاة التي تذهبان لاصطحابها معهم يومياً،
لقد تعلمت بسبب حنان أن الطيبة ليست عيباً عندما تصدر من أهل الطيبة ولكنها تتحول
ريبة عندما تصدر من دونهم.
تأقلمت مع الأطفال بسرعة ونالت حبهم واحترامهم، كانت
دائماً ما تحب الأطفال وتتمنى أن يرزقها الله بالكثير والكثير منهم لتشبع غريزة
الأمومة الطاغية لديها كما هو الحال مع حنان، حنان تلك الأخت من دم مختلف تذكرها
بزهرة وببعض الأمور المنسية داخل أعماقها، تفهمت رغبة حنان في حصول التلاميذ على
علم لائق يفيدهم في حياتهم الخارجية قبل الإمتحان فهذا ما سيتبقى لهم حقاً.
ذاع صيتها في المدرسة وبدأت الضحكة تعود إلى وجهها، هذه
الضحكة التي أختفت منذ غادرت منزل أهلها وجاءت إلى القاهرة التي قهرتها حقاً هي
اسم على مسمى بعكسها، البسمة التي لا تفارق شفتي حنان في أي لحظة أو موقف أصابت
حياه بالعدوى ولكنها عدوى مرحب بها.
اعتقد الجميع أن هناك صلة قرب بينهما، لما تملكانه من
بسمة تُنسي من يراها حزنه وهمه كذلك ملابسهما المتشابهة حيث الإحتشام والأناقة
معاً فلم يعرف أحد أنها ترتدي ملابس حنان حتى تحصل على أول مرتب لها وتقدر على
شراء ملابسها الخاصة، رغم ذلك لم تحاول أي واحدة منهما تصحيح ذلك الإعتقاد فهن في
النهاية أخوات في الله وليس رابط الدم هو ما سيربطهما فعلياً.
كانت تنام في غرفة حنان تشعر بها عندما تستيقظ في الثلث
الأخير من الليل تبتهل وتدعو أن يحمي الله طفلتها ويردها إليها سالمة في أقرب وقت،
توضأت وانضمت إليها في صلاتها تشاركها الدعاء في عودة ابنتها التي تشتاق هي نفسها
لرؤيتها من حديث الأم عنها ثم تدعو لنفسها بصلاح الأمور وهدايتها إلى طريق الصواب.
لقد كانت ترتدي الملابس الفضفاضة في بلدتها لكن لإنها
العادات على عكس سلمى صديقتها التي كانت ترتديه إقتناعاً، بعدما رأت حنان وحياتها
وملابسها تيقنت أن هذا حقاً الأفضل وأصبحت ترتديه عن قناعة لذلك بأول راتب لها
اشترت ثلاثة أطقم تبدل بينهم في أولى خطواتها للإستقلال.
***
تعجبت حنان من استدعاء المديرة لها في هذا الوقت من
النهار على عجلة دون إخبارها عن السبب، دعت ربها أن لا تكون هناك مشكلة.
طرقت الباب في إنتظار الأذن بالدخول حتى أتاها فدلفت
ملقية السلام: السلام عليكم
ردت رافعة رأسها بإنتباه: وعليكم السلام .. اتفضلي اقعدي
يا حنان
جلست حنان مطيعة وعينيها تسأل مالم ينطقه لسانها، اعتدلت
المديرة سناء: هأدخل ف الموضوع على طول عشان زي ما إنتي عارفه ما بأحبش اللف
والدوران
أومأت بتفهم فعادت تكمل الحديث: واحدة صحبتي كانت مديرة
مدرسة بردو بس قدمت على معاش مبكر بعد ما جوزها اتحال ع المعاش عشان تقعد معاه
تونسه، طلبت مني أشوفلها مدرسة أثق فيها عشان تدرس لبنتها
حنان متعجبة: طب ما تقدملها في المدرسة
ردت بأسف: البنت عندها حالة نفسية منعتها من الكلام فلما
بتروح المدرسة مش بتقدر تتفاعل مع زملاءها وبتبقى محل للسخرية منهم لعدم وجود
التوعية المناسبة زي ما إنتي عارفه، كمان مجرد إنها تشوف اللي حواليها ف حالة
تواصل ماعدا هي هيسببلها أزمة أكتر .. ومن ساعة ما عرفوا إنها بتضايق ومش بتتكلم
وهما سحبوا أوراقها من المدرسة وقرروا يجيبولها مُدرسة تهتم بيها ف البيت
حنان بعدم فهم: وأنا المطلوب مني أشوف لحضرتك مُدرسة
مناسبة يعني ؟
هزت سناء رأسها نفياً: لا أنا عايزاكي إنتي اللي تبقي
المُدرسة دي، أنا عارفه قد إيه إنتي حنينه وهتقدري تتوصلي معاها بسرعة، خصوصاً إنه
البنت مش إجتماعية أوي ومش أي حد بتقدر تاخد عليه بسهولة، أعتقد بتحس باللي بيحبها
ويحن عليها بجد وبين اللي بيمثل أو يشفق على حالها.
أومأت متفهمة لكنها علقت: بس أنا مش هأقدر، حضرتك عارفه
إنه بعد المدرسة بأروح أشوف جدتي وأقعد معاها كمان عندي نشاطات تانية مش هأقدر أسيبها
- إممممم طب والحل ؟؟
بعد تفكير: أنا هأشوفلك واحدة وأتمنى إنها توافق
- إن شاء الله توافق، وأنا واثقة فيها مادام من طرفك
***
وقفت أمام الشقة تتأكد من الرقم المدون على الورقة التي
تحملها بين أصابعها وتطابقها مع الرقم الموجود على باب الشقة.
لقد أقنعتها حنان بقبول هذه الوظيفة لتقضي يومها فيما
يفيد وذكرتها كذلك بثواب مساعدة طفلة صغيرة، كما سيساعدها الراتب الذي ستتقاضاه في
تأسيس الحياة المستقلة التي ترغب بالحصول عليها.
دقت الجرس ولم تمر لحظات حتى وقفت أمامها سيدة رغم كبر
سنها إلا أنه يبدو عليها الإهتمام بنفسها، حجابها وقور لكنه في نفس الوقت أنيق،
ابتسمت عندما رأتها: إنتي ميس حياه مش كدا ؟
أومأت مؤكدة صدق حدسها، سمحت لها بالدخول تتحدث إليها عن
طباع مي مي وأن اسمها الحقيقي هو ميّ لكن لا تحبه ولا تجيب عن ما يلقبها به.
أرشدت بالنهاية إلى غرفة مي مي وتركتها بعد إلحاحها فهي
تريد التعرف عليها بطريقتها الخاصة حتى تنزع من قلبها أي أثر للرهبة بينهما.
كان الباب شبه مفتوح رأت من خلاله طفلة ذات شعر بني
حريري ينسدل بحرية مغطياً نصف ظهرها، ترتدي بنطالاً من الجينز وتي شيرت أزرق
اللون، تلعب بألعابها صامتة.
اقتربت منها بهدوء: على فكرة إنتي بتعمليها صح .. ما شاء
الله عليكي
ألقت عليها نظرة عابرة ثم عادت إلى ما كانت تفعله غير
مبالية، جلست على الوسادة المجاورة لها وأضافت بجدية: بس إنتي ممكن تعمليها بطريقة
تانية أسهل وأسرع
نظرت إليها الطفلة بترقب فاستغلت الفرصة وأمسكت باللعبة
تريها الطريقة الأخرى لحلها، أعجبت مي مي بذكاءها وانقضى الوقت والإنسجام هو
المسيطر.
أغلقت الأم الباب مبتسمة فقد اطمأنت أن صديقتها قد
اختارت بالفعل الشخص المناسب، دخلت إلى غرفة المعيشة حيث يقرأ زوجها كتاباً
كعادته.
سألها بعدما جلست: ها .. اطمنتي؟
تنهدت: الحمدلله .. شكلهم متفاهمين جداً مع بعض
- طب كويس .. ما تنسيش تبقي تتصلي بسناء تشكريها
- لا ما تقلقش بعد ما حياه تمشي من عند مي مي هأبقى
أكلمها، الست عملت فينا جميل
- ما تنسيش بردو إنكوا درستوا سوا وكمان أول مدرسة
اتعينتوا فيها كنتوا مع بعض ولولا الظروف اللي فرقتكوا كنتوا فضلتوا سوا ... وإنتي
بقيتي مديرة مدرسة والسنة اللي بعدها هي مديرة مدرسة تانية
- أه ههههههه سبحان الله
انتهى الوقت المخصص لدروس مي مي، اكتفت حياه بالتعرف واللعب معها في المرة
الأولى فقط حتى تعتاد عليها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق