غادرت حنان الفصل بعد إنتهاء وقت حصتها، قابلتها صديقتها
ورفيقتها في المدرسة وسارتا سوياً في اتجاه غرفة المعلمات.
- الأطفال بيحبوكي أوي يا حنان، تقريباً ماحدش بيغيب ف
الفصل يوم حصة الدين بتاعتك
ابتسمت حنان: عشان أنا كمان بأحبهم، ما تنسيش يا هالة إن
الأطفال بيحسوا باللي يحبهم
ضحكت هالة: قصدك إننا مش بنحبهم ؟
حنان مسرعة لإصلاح سوء الفهم: مش قصدي والله، بس ما
تنكريش إنكوا - مش هأقول كلكوا- لكن أغلبكوا بيجي المدرسة ويدخل الحصص بس عشان
المرتب بتاع أخر كل شهر مش عشان عايز الولاد يتعلموا وأنهم يحبوا المدرسة.
هالة: خلاص يا نونه مالك اتعصبتي كدا ليه ؟، أنا كنت
بأهزر معاكي
وصلتا إلى غرفة المعلمات، اتجهت كل منهما إلى مكتبها،
سحبت حنان كتاباً من درج مكتبها وفتحته أمامها دون أن تقرأ منه حرفاً، لقد اتخذته
وسيلة تخفي شرودها.
إنها تحب الأطفال لأنها تراهم تعويضاً عن ابنتها
المفقودة، لقد منعها زوجها من العمل فهو لا يحب أن تعمل زوجته، أطاعته لأنها أحبته
بعمق تخلت عن حلمها بأن تصبح معلمة من أجله ولكن بعد فقدانها لطفلتها كذلك إنفصالها
عنه عادت تبحث عن حلمها من جديد كطريقة تخرج بها من قوقعة حزنها وقسوة آلامها.
نفست في طلابها الصغار الحنان والحب الذين كانا من حق
ابنتها، بدأت تشعر بالراحة وكذلك التعويض عن جرحها.
تنهدت خارجة من ذكرياتها واستجمعت شتات أفكارها لتصب
تركيزها على الكتاب الممسكة به وانشغلت بقراءته حتى انتهى اليوم الدراسي فضبت أغراضها
وغادرت منطلقة إلى منزلها.
***
طلبت المصعد وانتظرت هبوطه، رأها حارس البناية فاقترب
منها وألقى التحية، ابتسمت وردت تحيته وسألته عن أخباره وأخبار زوجته وأيضاً
أطفاله.
شكى لها من شقاوة الأطفال وعدم اهتمامهم بدراستهم كذلك
المعلمين الذين لا يهتمون سوى بمن يأخذ معهم دروساً خصوصية مهملين البقية، كاد أن
يبكي ولكنه تماسك على قدر مستطاعه.
- والله يا ست حنان لو معايا ما كنت اتأخرت واصل .. بس
دول سبع عيال ومش ملاحج
شعرت بالحزن على حاله: معلش يا عم إسماعيل، لو الولاد
محتاجين أي حاجه خليهم يطلعولي وأنا مش هاتأخر
صمتت قليلاً ثم أضافت: وأبقى ابعتلي صفوت عايزاه .. ماشي؟
حاول تقبيل يدها ولكنها تراجعت: ربنا يخليكي يا ست هانم،
حاضر أول ما يرچع هاخليه يطلع
- طب عن إذنك بقى يا عم إسماعيل
كادت أن تصعد عندما أوقفها مسرعاً: صحيح يا ست حنان، فيه
ظرف چـه لشجة چـنابك وكنت لسه هأطلعه للحاچـة
استلمت منه الظرف وحيته صاعدة إلى شقتها.
دلفت إلى الداخل وقلبت الظرف بين كفيها لتجده يخص زوجها
السابق.
جاءت الجدة ورأت ما تحمله في يدها: إيه الظرف دا ؟
- دا جاوب كان جاي لخليل
تأففت الجدة: يووووووه بقى، إحنا مش هنخلص؟، دا بقاله
أربع سنين ناقل من هنا ولسه بيجيله جوابات ؟؟
تأملت الظرف ثم فتحته لتتأكد: دا تقريباً يخص الشركة
اللي كان عايز يشتغل فيها في السعودية ودي كان باعتلها من زمان ودا الرد بتاعها ..
كانوا قايلين إنهم هيبعتوا له لما يبقى فيه مكان فاضي عندهم
نظرت لها جدتها وحذرتها: أوعي تقوليلي إنك هتروحي
تديهوله !
- أومال فتحته ليه ؟، ما هو ما دام مهم هاوديهوله لو كان
مالوش لازمه كنت طنشت أو قولتله على التليفون
- طب اتصلي بيه خليه يجي ياخده ولا إنتي غاوية حرقة دم ؟
- عادي يا تيته، أنا كدا كدا خارجه هأروح أودي الشهرية
بتاعت الصدقة
- تعيشي وتفتكري يا حبيبتي
تمعنت في ملامحها ثم قالت بحنو: وحشك ؟
أدارت حنان ظهرها وقالت بتوتر: إيه اللي بتقوليه دا يا
تيته، دا واحد متجوز ومخلف من مراته كمان
أمسك جدتها بذراعها: بس دا ما يمنعش إنك لسه بتحبيه
ووحشك
تجمعت الدموع بين جفنيها وقالت بصوت متهدج: ما بقاش ينفع
يا تيته
ضمته جدتها إلى حضنها وشاركتها دموعها: معلش يا حبيبتي
... إن الله مع الصابرين، ربنا هيعوضك خير قريب
ظلت على هذا الحال حتى هدأت، استحمت وبدلت ملابسها
ولكنها قررت سماع نصيحة جدتها وهاتفت خليل ليأتي ويأخذ رسالته، أخبرها أنه سيمر
عليها بعد أن يُنهي عمله.
سمعت طرقاً على الباب أرتدت إسدالها وفتحت لفتى في
السابعة عشر من عمره ببشرة قمحية: أهلاً يا صفوت أخبارك إيه ؟
- الحمدلله يا ست حنان ... أبويا قالي إنه حضرتك عايزاني
خير ؟
- عايزاك تكتبلي أسامي المدرسين اللي عايز تأخد عندهم
درس
- ليه ؟
- بص يا صفوت أنت مش عيل وأبوك كمان مش صغير وكفايه عليه
هم لحد كدا، أنا هأكلم المدرسين وأتفق معاهم على دروسك والفلوس من جيبي
حاول الإعتراض ولكنها أوقفته: عارفه هتقول إيه، بس
اعتبرهم سلفه، أنت ثانويه عامة وكلها سنة وتدخل الجامعة ولما تشتغل بشهادتك هاخد
منك الفلوس دي، اعتبرها دين يا سيدي ماشي؟
- بس ...
- ما بسش، أبوك قلقان عليك وهو كفايه عليه اللي هو فيه
فخلينا نخف عنه حملك ع الأقل، أنا كلمتك أنت عشان أنت راجل والموضوع يخصك، أبقى
قول لأبوك بمعرفتك بقى ولا تحب أنا أقوله ؟
- لا أنا هأقوله .. كتر خيرك يا ست حنان مش عارف أشكرك
إزاي
- يلا يلا، ركز في مذكرتك وجيب مجموع كبير وبكدا تكون
شكرتني فعلاً
- حاضر، مش هأخلي حضرتك تندمي إنك ساعدتيني
- إن شاء الله
- عن إذن حضرتك
- اتفضل
أغلقت الباب ودخلت لتستعد للذهاب إلى الجمعية الخيرية
التي تدفع بها صدقة جارية لوالديها عن طريق كفالة الأيتام وغيرها من دروب الخيرالتي
تشارك فيها باسمهم أو باسم ابنتها.
***
كانت الساعة تقترب من السابعة مساءً عندما دق الباب
فاتجهت الجدة لتفتحه هاتفة: كل دا يا حنان ؟؟ أنا القلق كان هيموتني
توقفت عن الكلام عندما رأت ذلك الرجل الذي بدأ يخالط
شعره الكاحل بعض البياض، صاحب بنية قوية وعيون سوداء، سألها متعجباً: هي حنان مش
هنا ؟
عقدت ذراعيها: وأنت مالك ومالها ؟، أظن كل اللي بينكوا أنتهى
من أربع سنين من ساعة ما طلقتها وأتجوزت غيرها
تنهد خليل محاولاً تفادي الجدال مع السيدة العجوز: هي
راحت فين ؟
تناولت الظرف من فوق الطاولة المجاورة للباب وسلمته إليه
قائلة: أنت جاي عشان دا وأديني أدتهولك خده وروح بقى
أضافت: وياريت تبقى تقولهم إنك غيرت عنوانك، عشان مش كل
شوية يجلنا جواب لحضرتك
عند تلك اللحظة وصل المصعد لتهبط منه حنان ضاحكة برفقة
جارهم وطفله الذي لم يتجاوز الخمس سنوات.
داعبت حنان خصلات شعره الناعمة: ما تنساش تشرب اللبن وما
تتعبش بابي معاك
طلب منها الجار برجاء: أه وصيه عليا يا حنان عشان مطلع
عيني
نظرت إلى الصغير قائلة: لا نادر شطور وبيسمع الكلام ومش
هيزعلك، صح يا ندوره ؟
أومأ نادر بطاعة: أيوه يا ماما حنان
ضمته حنان عندما سمعت كلمة "ماما" من فمه
الصغير: حبيبي يا نادر، يلا روح مع بابي بقى
حيا والد نادر برأسه جدتها وكذلك ضيفها الذي مازال
واقفاً على الباب رغم استغرابه من رؤيته فهو يعرف أنه زوج حنان السابق.
أمسك بيد ابنه ودخل شقته، ألتقت نظرات حنان مع الشرارات
الصادرة من عيني خليل، اقتربت منه وحيته بابتسامة صغيرة: أهلاً ... إزيك يا خليل ؟
أطلعتها جدتها: أنا اديته الجواب بتاعه خلاص
أومأت حنان وقالت لخليل: طب عن إذنك
همت بالدخول إلى الشقة ولكنه أمسك ذراعها بإحكام وقال من
تحت ضروسه: مين دا ؟
نظرت إلى يده الممسكة بذراعها مندهشة: سيب إيدي
تركها مكرراً سؤاله: مين دا ؟
نظرت إلى باب الشقة المقابلة حيث أشار: دا جارنا، دكتور
بدر
- وسكن من إمتى ؟
أجابته مستغربة أسئلته: بقاله 3 سنين من ساعة ما مراته
ماتت نقل هنا
تحدث بسخرية: ااااه قولتيلي، يعني بيدور على عروسة
هتفت بغضب عندما فهمت تلميحاته: لا ما قولتش حاجه، أنا
وهو جيران وبس، كمان بأحب نادر ابنه جداً
ثم أضافت: وحتى لو فيه حاجه كدا دا شيء ما يخصكش، أنت
بنيت لنفسك حياة جديدة ومستخسر فيا أعمل زيك ؟؟؟
خليل غاضباً: وهو أنا اللي كنت دمرت اللي ما بينا يعني؟؟
... ولا إهمالي هو اللي ضيع بنتنا مننا ! ... ما تردي !
ترقرت الدموع بعينيها لم تجب على أسئلته بل دلفت إلى الشقة
وأغلقت الباب في وجهه بقوة، انزلقت أرضاً تبكي وجدتها تنظر إليها في شفقة؛ فما
تكاد تبدأ جروحها في الإلتئام حتى يظهر ما يعيد فتحها من جديد كأن لا فكاك لها من
مخالبها.
غادر خليل نادماً على ما قال، ولكن ماذا يفيد الشاه
سلخها بعد ذبحها ؟؟!
***
مرت عدة أشهر، تزوجت صديقتها المقربة سلمى من ياسين
وغادرت معه إلى القاهره حيث يسكن، متقبلة العيش مع زوجته الثانية، أهٍ كم يجعلنا
الحب نتقبل أمور لم تكن تخطر بالبال، لم نكن لنقبل بها إذا سمعنا عنها .. نستهجنها
إن أخبرونا أننا سنفعلها.
كرر شادي تقدمه للزواج من حياه لكن والدها كرر رفضه،
حاولت زهرة معه لكنه لم يقتنع بأن هذا هو الزوج المناسب لابنته بينما خافت حياه أن
تحدثه فيفهم أن هناك إتفاق بينها وبين شادي أو علاقة ما .. فقررت الإنتظار في حين
تدفع شقيقتها للحديث معه لكن بلا أمل.
فقدت حياه بعد فترة قدرتها على الصبر والتحمل وتحدثت مع
والدها ليتأزم الوضع بينهما وترتفع أصواتهما في المنزل مما جعل الجميع يجتمعون
ليروا ما يحدث.
- يعني إنتي تعرفيه!، خرجتي معاه من ورايا يا حياه ؟؟
توترت حياه ولكنها أجابته بصراحة: أعرفه يا بابا، بس ما
قبلتوش غير مرتين تلاته بس
زاد غضبه: والله عال وعملتي إيه تاني يا بنت يا محترمة
- والله يا بابا ما فيه حاجه إحنا بس اتكلمنا كلمتين وهو
قال إنه هيجي يطلبني منك مش أكتر
صفعها والدها بقوة لدرجة أسقطتها أرضاً وأدمت شفتيها:
بقى بعد التعب اللي أنا وأمك تعبناه فيكي تيجي إنتي تمرمغي اسمنا ف الطين ؟؟؟
ركضت زهرة تمسك يده باكية تحاول أن تكبح غضبه: يا بابا
والله ما حصل حاجه
إلتفت إليه والدها بغضب: وهو إنتي كمان كنتي عارفه ؟؟
... يعني أنتوا شايفني كيس جوافة بقى وما بقاش ليا لزمه
أقبل عليهم محمود: مين قال كدا يا حاج ؟، إيه اللي جرا ؟
نظر إليه والده: أنت كنت تعرف إن أختك على علاقة بالواد
بتاع فوج البحث العلمي عشان الأثار اللي في الجهة القبلية من البلد ؟؟
نظر إلى والده وأخته بعدم فهم: لا أبداً، هو في حاجه زي
كدا ؟؟
هتف بصوت أرتجت له أركان المنزل: دا اللي قالته الهانم
بلسانها دلوقتي
لم يستطع محمود التماسك أيضاً أمام ما سمع فأتجه إليها
وهي مازالت مطروحة أرضاً وجذبها من شعرها: بقى إنتي يا حياه اللي تعملي كدا ؟؟؟
ركضت إليه زوجته عائشة تحاول إبعاده عنها ولكن قبضته
كانت تشتد أكثرعليها، صرخت حياه متألمه: والله مش زي ما أنتوا فاكرين، أنا كلمته
كلام عادي والله
صرخ بها محمود: وكنتي بتقابليه إمتى وإنتي أصلاً ما
بتخرجيش من البيت ؟؟
أكمل: كنتي بتنيمينا في العسل وتخرجي من ورانا تقابليه
يا هااااانم ؟؟؟
صفعها: ما تردي !!
أجابته بصوت متهدج يحمل الكثير من الألم: كنت .. كنت بأقابله
... بالليل بعد ما تناموا
رفعت ذراعيها أمام وجهها متفادية الصفعة القادمة، قبل أن
يتفوه أياً منهم بكلمة وضع الأب يده فوق قلبه متألماً وأوشك على السقوط.
صرخت زهرة: بااااااااابااااااااا
ترك محمود أخته وأتجه إلى والده يسنده إلى أقرب مقعد
بينما انتلقت زهرة تهاتف الطبيب وعائشة تعاون حياه على النهوض وتقودها إلى غرفتها.
دخل عصام عائداً للتو من منزل خطيبته بعد أن أخبرته زهرة
بأن الأمور أصبحت على ما يرام وقد تفهمت خديجة موقفه.
دلف خلفه أنس فبعد أن انتهى من درسه اتجه إلى أصدقائه
ليلعب كرة القدم مما جعله يتأخر عن موعده.
كانت تمر بهذا البيت عاصفة شديدة، ظنها الجميع وقتها
أكبر المصائب فلم يعلم أحد منهم أن القادم أعظم بل يجوز أنه الأسوء على تاريخ هذه
الأسرة التي كانت -يوماً ما- من أسعد الأسر مجازياً، لأن السعادة أمر نسبي يختلف
من أسرة إلى أخرى بل من شخص إلى أخر، فالبعض يجدها في المال والبعض في راحة البال
وغيرها من وجهات النظر.
***
انهارت في غرفتها تبكي سوء ظن عائلتها بها، نسيت أن
والدها رغم دراسته بالقاهرة وإقامته هناك عدة سنوات إلا أن دمه ما يزال دماً صعيدياً
أصيلاً، رجل شرقي يقتله أن يُطعن في شرفه، هذا الشرف الذي يحيا ويموت حفاظاً عليه.
لقد ضغطت على موطن ألم كل رجل ليس فقط صعيدياً بل أيضاً
شرقياً مسلماً، ما جرحها حقاً أن والدها وشقيقها ظنا بها السوء، لقد انعدمت ثقتهما
بها تماماً.
دخلت عليها عائشة والحزن يبرز من ملامحها: إنتي كويسة ؟
اتجهت إليها حياه بلهفة: بابا عامل إيه دلوقتي؟
- الضاكتور لسه ماشي من عنده، صحته مش عال واصل، كانت هتچيله چلطة بس الحمد لله الضاكتور لحجُه هو محتاچ راحه وإن مافيش حاچه تزعچه مش أكتر وهيبجى
كويس إن شاء الله.
جلست حياه على طرف فراشها تبكي بحرقة، ضمتها عائشة تحاول
التخفيف عنها، اندفع الباب مفتوحاً على مصرعيه نتيجة دفع محمود له بشدة أوشكت على
كسره، دلف وعينيه تقدحان شراً.
أمر عائشة بالخروج وقال لحياه: إنتي هتفضلي محبوسه هنا
وحسك عينك تفكري تخرجي وإلا قسماً بالله العظيم لأكسر رجلك وأرميكي لكلاب السكك
اللي عشقتيلي واحد منهم !
غادر ساحباً زوجته معه بعد أن أخذ منها هاتفها وأي وسيلة
قد تحاول الوصول بها إلى شادي، سمعت حياه دوران المفتاح في الباب، لقد انتهى بها
الأمر سجينة غرفتها.
***
مرت أربعة أيام، بدأ فيها فاروق يتعافى ولكن ببطء شديد
لا يلحظ، كان البيت يسوده الحزن على ما وصل إليه الأمر.
توقفت حياه عن الحياة، لا تتناول إلا بضع لقيمات تساعدها
على العيش لعدة دقائق وربما ساعات لا غير.
أشفقت زهرة على عذاب أختها لكن لم تستطع فعل شئ، أضطر
عصام أن يسافر إلى أمريكا كما رتب حتى
ينهي موضوع رسالته أملاً في إنتهاء الوضع قبل أن يستطيع أخذ أجازة.
دخلت عائشة إلى غرفة حياه تحاول أن تشجعها على تناول
غداءها بينما حياه لا تفكر إلا بالغضب مما يفعله والدها وشقيقها بها.
ظلت تفكر أن الجحيم أفضل مما هي فيه، لم يحاول أياً
منهما التحدث إليها أو فهم حقيقة الأمر منها، غضبها وحنقها عليهما يزداد يوماً عن
يوم.
سمعت عائشة بكاء الصغيرين فتركت حياه متحسرة على حالها،
لم تلحظ أنها نسيت هاتفها المحمول فوق الفراش فقد كانت تتحدث به قبل أن تدلف إلى
حجرة حياه وذهب ولديها بعقلها وتركيزها.
لمعت عيني حياه ببريق مفاجئ وأمسكت الهاتف تدق أزراره
متصلة بمن فرقوها عنه وقد حفظت أرقامه عن ظهر قلب: ألو
أتاها صوته ليعيد الدموع إلى عينيها بعد أن ظنت أنه
أصابها الجفاف: ألو
- حياه ؟
- أيوه أنا، إزيك ؟
ضحك بسخرية: دا قصدك بعد ما أخوكي هددني إني لو ما مشتش
من هنا هيقتلني ولا بعد ما ضربني علقة لسه خارج بسببها من المستشفى؟؟
صرخت بفزع: إيييه؟؟ هو عمل فيك إيه ؟
- لا أبداً ضربني علقة موت بس
- أنت كويس ؟
- لسه أهو شوية رضوض بس، قولتلك مافيش فايده وإننا نهرب
دا أحسن حل ما صدقتنيش !
- أنا أسفة
- المهم إنتي عملوا فيكي إيه ؟
- حبسوني في الأوضة مش بيخرجوني منها
- صحيح دا تليفون مين ؟
- دا موبايل عيشه مرات أخويا
- أها، طب هتعملي إيه دلوقتي؟
- مش عارفه
- أنا هأقولك عرضي دا لأخر مرة .. أهربي معايا
- بس ...
- أنا مش هأصر عليكي أصلاً الكلام بعد اللي حصل دا مالوش
داعي، لو عاجباكي أوي بهدلة أهلك ليكي وحبستك دي براحتك، بس ع العموم إنهارده
الساعة 9 بالليل أنا راجع القاهرة تاني، لو غيرتي رأيك إنتي عارفه مكاني ... سلام
- ألو ... ألو ... شادي !
نظرت إلى الهاتف بعد أن أدركت إغلاقه للخط، ظلت تفكر
مرراً في عرضه، هل تقبل أم لا؟، لقد ظن بها أهلها الأسوء رغم أنها رفضت الهروب معه
ولكن ما جدوى رفضها، لقد أبى والدها إعطاءه فرصة كما منعها شقيقها أن تمارس أبسط
الأمور مكتفين بحبسه فقط، لا يخاطبها في حبسها سوى عائشة التي تأتي إليها خلسة في
عدم وجود محمود حيث يمنعها من الحديث إليها .. وزهرة التي ما عاد حديثها يُترك أي
أثر في نفسها، وأنس ذلك الطفل الذي يدخل ليرى حالتها فيسرع بالمغادرة مخفياً
الدموع التي تتجمع في مقلاتيه.
حزمت قرارها، سترحل عن هذا المنزل حيث لا يقدرها أحد،
لقد أصبح هذا المنزل كالجحيم، لم يراعِ أحد مشاعرها ولا سعادتها فلماذا تراعيهم
هي؟، نهضت تضب بعض الأغراض في حقيبة صغيرة وتفكر في طريقة للتغلب على أسرها.
لم تعلم ما ينتظرها من هوان، وأن الجحيم في منزل أهلها
أفضل من الجنة في بعدهم، لم تفكر لحظة في قرارها وأن الجحيم الحقيقي هو ما تستعد
له الآن بكل حماس، أهٍ لو يسبق الإنسان الحاضر بعقله مُفكراً بعواقب الأمور قبل
إرتكابها لكان وفر على نفسه عذاباً وحمى نفسه من مُر الهموم، لكن بالنهاية يحدث ما
كُتب له الحدوث فلا يقف أمام القدر مخلوق، فقد شاء الله وأمره نافذ لا نملك أمامه
شيئاً سوى أن يجنبنا الله الندم الملعون.
***
تقلبت حنان في سريرها لا تستطيع النوم، تحارب الأرق منذ
ساعات ولكنه يأبى الإنهزام، جلست في فراشها وبدأت تسرح في ذكرياتها التي لا تتوانى
عن العودة إليها بكل فرصة.
كانت في السنة النهائية عندما حضرت زفاف صديقة لها، هناك
في ذلك الزفاف حيث قابلت خليل، حاول التقرب منها ولكنها صدته، حادثها دفعته، تغزل
بها فنهرته، كل ذلك وهي تخفي عنه بين ثنايا قلبه أنها عشقته.
ظل يحوم ويدور حولها حتى علم عنها كل صغيرة وكبيرة، في
النهاية تقدم لخطبتها وعندما أطلعتها جدتها على طلبه كادت تفقد وعيها من السعادة.
وافقت عليه بعد أن استخارت ربها، فهي تستخيره في كل
صغيرة وكبيرة في حياتها؛ فكيف لن تفعل في أهم قرار مر عليها في ذلك الوقت ؟!،
إزداد حبها له كلما عرفته أكثر، تزوجا وعاشا في منزل منفصل عن جدتها وكان هو يتيم
الأبوين.
بعد زواجهما بعدة أشهر تعبت جدتها من الوحدة وعدم وجود
من يتابعها وتثق به، حينها أقنعت حنان زوجها بالإنتقال والعيش مع جدتها وبعد ذلك بفترة
اكتشفت حملها.
كادت أن تحلق .. لا لا إنها حلقت بالفعل عندما تأكدت من
الخبر، سترزق بمولود من حبيبها، ذلك الذي سرق قلبها سيهبها الله منه ذرية ونسخة
عنه، صلت عدة ركعات شكراً لله على هبته لم يوقفها سوى إرهاق قدميها وإجبار خليل
لها على إلتزام الراحة التامة والهدوء اللازم.
لقد غمرته السعادة الشديدة، لم تره يوماً بهذه السعادة،
يا تُرى هل شعر بذلك أيضاً عندما علم بحمل زوجته الأخرى؟
تذكرت كيف مرت الأيام سريعة وأنجبت طفلتها، مرت أربعة
أعوام حتى أتى ذلك اليوم المكلوم .. يوم عيد ميلاد صغيرتها.
صحبتها معها لتشتري ما يخص الحفلة فجدتها أصابها الزكام
ولا تستطيع رعاية نفسها فكيف بطفلة صغيرة .. توسلت لخليل أن يحضر هو الأغراض لكنه
رفض.
- طب خد إنهارده أجازة وجيب الحاجه مافيهاش حاجه يعني دا
يوم
- عندي شغل كتير يا حنان مش فاضي
أنهى إرتداء حذاءه واتجه للخارج حيث تلعب طفلته، قبلها
بحب ونظر إلى حنان مقترحاً: خديها معاكي، بنوتي حبيبتي مش بتتعب ماما مش كدا ؟
هزت رأسها نفياً بحركة طفولية: تؤ ... مامي حبيبتي أنا
ضحكا معاً، قبلته حنان مودعة: أصلاً شكله مافيش حل غير
كدا
ألبستها وأخذتها برفقتها إلى التسوق، بدأت تختار الأشياء
وهي تجلس في عربة التسوق حتى وصلت إلى قسم المحاسبة وقفت تحاسب الموظف، سلمته
المبلغ المطلب واستدارت تحمل الأغراض وتنظر إلى المكان الذي كان ابنتها تحتله
ولكنها لم تجدها !
ظلت تبحث عنها حولها بعينيها ولكنها لم ترها، سألها
الموظف إذا كان هناك خطب ما، فأخبرته عن إختفاء ابنتها .. أسرع يطلع الأمن وظلوا
يبحثون عنها.
اتصلت بخليل باكية تسرد عليه ما حدث وفقدانها أثر
ابنتهما، أتى إليها مسرعاً لكن لم يضف مجيئه شيئاً سوى اللوم والضغط على أعصابها
أكثر.
عادا إلى المنزل بعد ساعات من البحث المتواصل دون أدنى
نتيجة، تكاد هي تنهار من الحزن، صرخ بها: إنتي إزاي تسيبيها تغيب عن عينيك ؟
- والله يا خليل هما 3 دقايق بس والله
- 3 دقايق لطفلة كانهم 3 ساعات، دا إهمال منك
- طب كنت هأعمل إيه يعني ؟، ما أنا كان لازم أحاسب
الكاشير
- المفروض إنك أم ومتعودة تتصرفي، أومال الأمهات اللي في
الدنيا بيعملوا إيه وبيحفظوا على ولادهم إزاي ؟!؟
- ما أنت لو كنت قعدت معاها اليوم دا أو كنت جبتلي
الطلبات ما كانتش حاجه من دي حصلت !
- إنتي عايزة تلبسيني أنا المسئولية يعني؟
- لا عايزه ألبسهالك ولا حاجه بس عايزاك تعرف إني زي ما
غلطت أنت كمان غلطت
نظر إليها بغضب ثم تركها ورحل.
ظلت بينهما حالة من الصمت حتى مر عام على إختفاء ابنتهما
ولم يتم العثور على أي أثر لها، كانت تقضي يومها في الدعاء لها، تطلب من الله أن
يحميها ويحفظها، يوقعها بطريق من يحبها ويخاف عليها.
وفي يوم جاء خليل طالباً منها إجراء حوار عاجل، أخبرها
أنه لم يعد يستطيع، لقد تعب من حياته معها، لا يقدر على النظر في وجهها دون أن
يتذكر ما حدث لطفلتهما، أنها السبب في ضياعها.
أنتهى الحوار بإطلاقه عليها يمين الطلاق لتصلها في اليوم
التالي ورقة طلاقها مؤكدة ما حدث في قبلاً.
بكت وأنهارت أكثر .. عاونتها جدتها على الخروج من الأزمة،
شجعتها على البحث عن حلمها الذي تخلت عنه بإرادتها، كان حسناً أنها طاوعتها؛ لقد
وجدت ملجأها بين الأطفال فكانت ترى في كل طفلة ابنتها وفي كل طفل الولد الذي تمنت
أن تنجبه في وقتٍ لاحق.
سمعت بعدها بحوالي الشهر أنه تزوج، ضحكت وقتها ساخرة،
لقد رتب حياته من جديد، نسي ابنتهما فلم يعد يحرك ساكناً في القضية الخاصة بها،
رغم جرح قلبها لزواج من أحبت من غيرها وكذلك إنجابه منها إلا أنها تمنت له السعادة،
ووهبت حياتها للدعاء حتى يدلها العالم الخبير على مخبأها، فثقتها بالله كبيرة وأنه
سيرد لها فتاتها يوماً ما.
مسحت دمعة فرت من عينها ونهضت تتوضأ وتصلي قيامها كما اعتادت.
0 التعليقات:
إرسال تعليق