انهى عشاءه دون أن يشعر بأي مذاق خاص له، كل شيء أصبح
بلا طعم منذ اكتشافه حقيقة من أحبها قلبه، تنهد بقوة لقد تسببت في كرهه لجنس
النساء بأكمله، لم يعد يثق بأي امرأة سوى والدته .. حتى شقيقته لا يثق بها أيضاً
مما يراه يحدث بينها وبين زوجها، يتعجب في كثير من الأحيان من قدرة فادي على تحمله
لشقيقته، تلك المدللة التي ما تنفك تذكره بجميل والدها عليه، إذا كان في محله لكان
تخلى عنها منذ أمد.
أفاق من أفكاره على صوت دقات خجلى على باب غرفته، اتجه
ليفتح الباب فوجد شقيقته الصغرى بملامحها الطفولية التي يشوبها بعض الخوف.
نزل لمستواها وأمسك ذراعيها، ابتسم متسائلاً: إيه اللي
مصحيكي لحد دلوقتي يا مي مي ؟
تجمعت الدموع في مقلتيها بغزارة وهي ترفع ذراعيها عالياً
لتريه مدى كبر ما رأت عيناها الصغيرتين، فهم أنها رأت ما أفزعها فابتسم بحنان
وضمها إلى صدره: ما تخافيش، أنا معاكي.
نظرت إليه بشك ولاحظ هو نظرتها تلك فعقد حاجبيه
متسائلاً: إنتي عندك شك إني أقدر أغلب العو وأخليه هو اللي يخاف مني ؟
أومأت مؤيدة لكلماته، أبعدها عنه واقفاً في مكانه واسند
جبينه بقبضة يده كعارضين كمال الأجسام أو كما يفعل بعض المصارعين قبل صعودهم لحلبة
المصارعة.
نظر إليها وسألها بتحدي: لسه عندك شك بردو ؟
ابتسمت بسعادة وهزت رأسها مخرجة أي شك كان متواجداً بها،
حملها بين ذراعيه وتوجه بها إلى خارج الغرفة ولكنها أبت ذلك متشبثة بباب غرفته.
نظر إليها متعجباً سلوكها، تبادلا النظرات قليلاً فأدرك
مدى خوفها الذي يشتعل بداخلها جاعلاً إياها ترفض النوم بمفردها، تنهد بثقل: عايزة
تنامي جنبي يعني ؟
أومأت بتردد، قبل رأسها ووضعها في سريره ثم اندس إلى
جوارها وظل يداعب خصلات شعرها الذهبية حتى غطت في سبات عميق.
بعدما تأكد من استغراقها في النوم اعتدل في نومته عاقداً
ذراعيه أسفل رأسه وعينيه تتأملان السقف في شرود، بدأ يتحدث بصوت مرتفع:
- تعرفي إني بأثق فيكي إنتي كمان، يمكن عشان بريئة ولسه
الدنيا ما لوثتكيش زي غيرك، يااااااه لو تفضلي بريئة ونضيفه من جوه كدا على طول ...
ههههههههه بس دا مش ممكن، مافيش واحدة بريئة في الدنيا دي، كلكوا خاينين ومايهمكوش
غير مصلحتكوا.
ارتفع أذان الفجر معلناً اقتراب سطوع شمس يوم جديد، نهض
ليتوضأ ويأوي إلى فراشه بعد أداء فرضه حتى يستطيع تحمل تلك المسافة التي تفصل بين
القاهرة وقنا بالإضافة إلى بدأه العمل فور وصوله.
***
دلفت حياه إلى غرفتها متنهدة فقد مرت هذه الليلة بسلام
دون أن يتم اكتشاف أمرها، ولكن فرحتها لم تدم ...
-كنتي فين يا حياه ؟
شهقت حياهفي فزع: زهرة ؟
نظرت إليها زهرة بحنق: أيوه زهرة، ما جاوبتنيش كنتي فين
؟
تنهدت حياه براحه فالحمدلله أنها شقيقتها زهرة وليست أي
شخص أخر، إنها كاتمت أسرارها وصندوق أفعالها، بدأت في نزع الحجاب من فوق رأسها مظهرة
شعرها المموج في حركات منتظمة، لقد كان شعرها يشبه شعر أغلب نساء الصعيد.
كررت زهرة سؤالها غاضبة: ما تنطقي، كنتي فين؟
حياه بهدوء ولا مبالاه: كنت بأقابل شادي.
استهجنت زهرة فعلتها وعبرت عن ذلك قائلة: بتقابليه ف
ساعة زي دي ؟، دا الفجر أدن، لا دا إنتي أكيد اتجننتي !
لوت حياه شفتيها: اللي يشوف كدا ما يقولش إنك كنتي عايشه
سبع سنين في القاهرة وإنك خريجة طب.
ضحكت ساخرة: يعني اللي بتعمليه دا عمايل واحدة خلصت ألسن
السنة اللي فاتت؟
-مالها تصرفاتي بقى ؟
-يعني إنتي مش شايفه عمايلك ؟ حد يعمل اللي إنتي عملتيه
دا ؟ .. ما فكرتيش لو حد من أهل البلد ولا من إخواتك أو أبوكي شافك هيجرا إيه ؟
إرتمت على المقعد المجاور لها وقالت بحزن: طب كنت أعمل
إيه ؟ كان لازم أشوفه.
جلست زهرة على طرف الطاولة أمامها وأجابتها بتعقل: لو
عايز يشوفك كان جه لبابا وطلبك منه مش يشوفك بالطريقة دي.
-ما هو طلب يشوفني عشان كدا
-إزاي يعني ؟
-بابا رفض أنه شادي يتجوزني.
سألتها بهدوء: ليه ؟ إيه السبب ؟
أجابتها باستنكار: عشان شادي شغله مش ثابت ومش ف مكان
واحد وكل يوم ف بلد شكل، كمان عشان أهله متوفيين.
-إنتي مش ملاحظه إنك بتظلمي بابا ؟ .. إنتي عارفه كويس
أوي بابا بيحبنا قد إيه ومستعد يعمل المستحيل عشان سعادتنا، كفايه إنه خاطر وخلانا
نروح الجامعة ف القاهره وهو كان استحاله يخلينا نبات ليلة واحدة برا البيت حتى لو
كان عند حد من أعمامنا.
-طب ليه ؟ ليه مش عايزني أتجوز شادي ... أنا بأحبه يا
زهرة.
-وبابا يعرف منين إنك بتحبيه ؟
-يعني تفتكري أقوله ؟
-لا طبعاً ! إنتي اتجننتي ؟ .. مهما كان تحضر بابا بس ف
الحاجات دي هيفضل صعيدي.
-يووووه بقى، حيرتيني معاكي !
-طب إنتي وشادي بيه وصلتوا لإيه في الكلام ؟
ترددت حياه في أن تخبر شقيقتها الكبرى عن عرض شادي
ولكنها حزمت أمرها بالنهاية وأطلعتها: عايزنا نهرب سوا.
انتفضت زهرة صارخة: نعم ياختي ؟
لحقت بها حياه ووضعت يدها على فم شقيقتها متوسلة بصوت
هامس: أبوس إيديك وطي صوتك.
تمالكت زهرة نفسها وأزاحت يدها: وإنتي قولتيله إيه ؟
- قولتله مش هينفع، ما اقدرش أعمل كدا مع أهلي.
-ومالك بتقوليها وإنتي زعلانه كدا ؟ .. ما دا الصح واللي
المفروض يتقال.
-ما هو زعل مني وافتكر إني مش باحبه وإني مع بابا ف رفضه
ليه.
-خلاص هو حر ف تفكيره، أصلاً واحد بالتفكير دا وبعد عرضه
ليكي أنكوا تهربوا سوا يبقى ما يستاهلش ومش بيحبك أساسا.ً
استنكرت حياه غاضبة: هو عشان عايز يتجوزني بأي شكل يبقى
ما بيحبنيش ؟
ربتت على كتفها مهدئه: لا، عشان مش عايز يتعب ولا يواجه
عشانك، لو بيحبك فعلاً هيبقى عايز ياخدك في النور وقدام كل الناس، هيحارب عشان
يوصلك مهما كان التمن .. بس هو اختار الطريق السهل، بس سهل ليه هو ونسي إنه بكدا
بيسوء سمعتك وهيضر عيلتنا والله أعلم ممكن يعمل إيه ف بابا ..
-بس هو بإيده إيه يعمله يعني ؟
- بسيطة، يسيب الشغل اللي مش ثابت دا ويشوف شغلانه ثابتة
وقتها بابا مش هيعترض.
- طب وأهله؟، يستعير أهل مثلاً ؟
- لا يا ستي مش هتوصل لدرجة الإستعارة، هو بابا قصده بس
إنه مالوش كبير يتكلم معاه يعني مين اللي هيتفق معاه ف أمور الجواز والذي منه.
-هو يعني صغير ؟
-ماحدش قال إنه صغير بس هي الأصول كدا، وبعدين لما تحصل
بينك وبينه مشكلة المفروض يبقاله كبير يتكلم بابا معاه وقتها، حد يعرف يجبلك حقك
منه.
- لا إن شاء الله مش هنحتاج حد، ومش هنزعل من بعض.
ابتسمت شقيقتها بحنان: إنتي طيبة أوي يا حياه.
شردت بعيداً وهي تتحدث كأنها تحادث نفسها: اسمك مش لايق
عليكي، بريئة وطيبة أوي عكس الحياه اللي مليانه شر وكره وبلاوي.
افاقت إلى نفسها وتابعت بجدية: الجواز مش كله عسل وحب زي
ما إنتي فاكره، إنتي نسيتي ماما الله يرحمها وخناقها مع بابا كل فترة ؟ .. أهو
بابا أطيب وأحن راجل في الدنيا وكان بيتخانق مع ماما اللي مافيش ست متفهمة زيها ..
فما بالك إنتي الطايشة المتهورة وسي شادي بتاعك دا !
عقدت ذراعيها بضيق: قصدك إيه يعني بالكلام دا يا ست زهرة
؟
ضحكت زهرة ضحكة خافتة: قصدي أقولك إنه الحياه مش وردي زي
ما إنتي فاكره
نظرت زهرة إلى الساعة المعلقه على حائط الغرفة الزهري:
يلا روحي صلي الفجر والحقيه بقى، أنا كنت جايه أصلاً عشان أصحيكي تصلي
لثمت وجنتها بحب واحترام: ربنا يخليكي ليا يا زوزو
ضحكت زهرة: ماشي يا بكاشه ..أوعي خليني أروح أحضر الفطار.
- ماشي، هاصلي وأجي أساعدك.
- طيب يا ستي كتر خيرك.
كادت أن تغلق الباب خلفها عندما إلتفتت إلى حياه كأنها
تذكرت شيئاً: حياه..
انهت لف حجابها استعداداً للصلاة ثم وجهت نظراتها إلى
زهرة: نعم ؟
رفعت سبابتها محذرة: أوعي تفكري تسمعي كلامه والأحسن
ابعدي عنه خالص .. أنا ماكنتش بارتاحله بس بعد اللي قاله دا أن مابقتش أطيقه.
أضافت غامزة قبل أن تغلق باب الغرفة خلفها: ماتنسيش اللي
بيحب بجد مش بيفكر حتى يأذي اللي بيحبه ... واقتراحه دا لو عملتي بيه هيدمرك مش
هيأذيكي بس! .. خلي الكلام دا حلقة ف ودنك.
شردت حياه حزينة، هي لم تحب غيره ويبدو أنها ستحرم منه،
قررت أن تنفض هذه الأفكار خارج رأسها وقد صفت ذهنها ووقفت في خشوع بين يدي الله،
فدائماً كانت زهرة تخبرها أن قلوبنا بيده وأرواحنا ملك له لذلك هو وحده القادر على
إزالة همومنا وإرسال الراحة إلى بالنا.
***
جلست قرفصاء على سجادة الصلاة بعد إنتهاءها من صلاة
الفجر تحمل بين يديها كتاب الله تتلو آياته بصوت ترهف له القلوب، مظهرة روعة
كلماته التي تجعل القلب يدق إما شوقاً لذلك النعيم المذكور والوصف البديع لجنة
الصابرين المتقين أو رهبة وخوفاً من عذاب النار.
ظلت على هذا الوضع حتى أشرقت الشمس، أغلقت مصحفها مصدقه
ونهضت تؤدي ركعتي الشروق.
بعد تسلميها رفعت يديها ابتهالاً لربها تقول بقلب خاشع
ونفس مكلومة ولكنها راضية: يا رب، يا رب، أنا عارفه أنه كل اللي بيحصل معايا دا
قدري ومشيئتك وأنا ما اعترضتش ولا هاعترض ف يوم، أنا عارفه أنه "لو علمتم
الغيب لأخترتم الواقع"، كل حاجه بتحصلنا مكتوبة ودا قدرنا، كل حاجه بسبب
ولسبب، يا رب أنا على طول باترجاك ترجعلي بنتي، بنتي اللي ما شوفتهاش من خمس سنين،
اللي مش عارفه ليها مكان ولا عارفه عنها حال، بس أنا متأكده إنك مش ناسيني ولا
ناسيها، يا رب أحميها وأحفظها، وقفلها ولاد الحلال وأبعد عنها ولاد الحرام، خليها
تكون قريبة منك تحكيلك وتفضفضلك، احفظها من كل سوء وكل شر.
توقفت أخر كلماتها على طرف لسانها فقد لجمتها عن الخروج
تلك الدموع اللؤلؤية التي بدأت في الهطول؛ ليس اعتراضاً ولكن حزناً لذكرى ما حدث
منذ خمس سنوات عندما فقدت ابنتها.
دار مقبض الباب ليسمح بدخول سيدة قد بلغ منها الكبر عتياً
وترك الزمن بمشاكله ومصاعبه أثره على ملامح وجهها ليخفي شبابها الذي كان في يوم من
الأيام وترك محله تجاعيد وحزن تشفق عليه النفوس.
-بتعيطي ليه بس يا حنان ؟
مسحت حنان دموعه ورسمت بسمة على ثغرها: مافيش يا تيته،
تحبي تفطري جبنة قريش لوحدها ولا أحطلك عليها زعتر زي كل يوم ؟
تابعت ناهضة تطوي سجادة الصلاة: ما تنسيش تاخدي الدوا بتاعك
عقبال ما أجهز الفطار.
تنهدت الجدة وهي ترى حفيدتها تتجه إلى المطبخ، برغم ما حدث
وما يحدث معها ما تزال كما هي، لم تقهرها الدنيا ولم تُركعها صدمات الحياة، وما
يدل ذلك إلا على حسن تربية ابنتها الحبيبة لتلك الفتاة.
تلاشت ابتسامتها التي ظهرت عند تذكرها لابنتها المتوفاة،
لقد ظنت أنها وحيدة وقت وفاة ابنتها قبل سبعة عشر عاماً شعرت وقتها بالقهر والحزن،
اعتقدت لفترة أنها اغضبت الله في شيء ما، اقترفت ما تسبب بحرمانها من ابنتها
الوحيدة، لكنها فجأه أدركت أن الله لم يتركها وحدها تعافر في هذه الحياة بل مد
عمرها لتبقى سنداً لحفيدتها حنان.
كانت حنان في المرحلة الثانوية عندما فقدت والديها معاً
في حادث غرق العبارة أثناء عودتهما من العمرة، قبلها رفضت حنان أن يؤجل والداها
تلك الفريضة من أجل امتحانات الثانوية العامة التي تصادفت أن تكون في نفس الموعد،
ظلت تحوم وتدور خلفهما تحاول اقناعهما حتى اقتنعا بالنهاية ورضيا بما شاءت، رفض
الطبيب سفر الجدة لأي سبب فجاء ذلك راحة لوالدة حنان "فاتن"، فسوف يكون هناك
من يهتم بحنان خلال سفرها.
لكن شاء الله وأمره نافذ أن تغرق العبارة التي كانت تحمل
فاتن وزوجها أثناء طريق العودة، أحست وقتها بأن الدنيا قد أنهرت ولن تعود كما كانت،
أصابتها نوبة قلبية عند سماعها الخبر المفجع.
لمع في ذهنها ثبات حنان وقتها، كانت تبكي بهدوء دون أن
تصرخ أو تعترض حينها حسدتها على ثباتها وفي الوقت ذاته خافت عليها أن تكون الصدمة
سبباً في وقوعها أسيرة المرض.
بعد مرور أيام العزاء، استيقظت ليلاً لتتناول الدواء
عندما سمعت صوت يخرج من الحجرة التي تقطنها حنان.
اقتربت بهدوء ونظرت عبر فتحة الباب الذي لم يكن موصداً،
وجدتها تجلس كما رأتها قبل لحظات ، تفترش سجادة الصلاة وبين كفيها المصحف تتلو
آياته بصوتها العذب.
دخلت إليها متسائلة: إيه اللي مسهرك لحد دلوقتي يا حنان
؟
- صدق الله العظيم .. مافيش يا تيته بأصلي قيام وقولت
اقرأ قرآن وادعي لبابا وماما بالرحمة
-تعيشي وتفتكري يا حبيبتي
جلست بجانبها أرضاً وتابعت: إنتي بتكتمي جواكي ليه ؟ ..
أنا عارفه إن موتهم صعب عليكي ومش عليكي لوحدك عليا أنا كمان بس طلعي اللي جواكي
دا بأي شكل كسري أو صرخي .. أي حاجه بس بلاش اللي إنتي عاملاه ف نفسك دا!
- طب دا هيفيدهم بإيه ؟، مش لما ادعيلهم هيبقى أحسن ؟ ..
عارفه يا تيته .. ف مرة سمعت شيخ ف خطبة الجمعة بيتكلم عن تصرفات الناس بعد موت
ناس عزيزة على قلبهم، وقتها قال إن الدموع والعياط دا بيفيدنا إحنا عشان بيطلع اللي
جوانا بس هما هيستفادوا إيه ؟، مش لو دعينالهم أو عملنا صدقة جارية باسمهم أحسن ؟،
كمان قال إنه الصويت وحالة الضياع اللي بتحصل لبعض الناس دي وخصوصاً من ولادهم دا
بيكون سبب في عذابهم لإنه بكدا هما ما فهموش ولادهم معنى الموت وإنه لكل أجل كتاب
.. وأنا مش عايزة أكون سبب في عذابهم.
أكملت بتأثر: ماما كانت بتسمع معايا الخطبة دي وخلتني
أوعدها إن لو حصلهم حاجه ما أعملش كدا وإني ادعيلهم كتير ويفضلوا على لساني ف كل
دعاء.
خجلت الجدة من نفسها؛ حفيدتها التي تعتبر طفلة تتصرف
هكذا أما هي فشعرت بأن الدنيا قد انتهت ولن تستمر مجدداً.
ربتت على كتفها سألتها بتردد: إنتي حاسه بالذنب إنك إنتي
اللي أصريتي عليهم إنهم يسافروا ؟
أطرقت حنان قبل أن تقول بهدوء: أنا كنت حاسه بكدا ف
الأول بس لما ماما جاتلي ف الحلم إحساسي دا راح
بتعجب استفسرت: شوفتيها ف الحلم ؟
- أيوه، جات وقالتلي إني ما أزعلش وما أحسش بالذنب .. بالعكس
إني المفروض أفرح لإني كنت السبب ف إنهم ماتوا بعد العمرة بعد ما غسلوا نفسهم من
الذنوب وماتوا قبل ما يرجعوا يعملوا ذنوب تاني، قالتلي إنهم كانوا هيموتوا ف
المعاد دا مهما اختلفت الطريقة، وإنها تموت بعد العمرة أحسن ما تموت وه في سريرها
وذنوبها لسه على كتافها.
أفاقت على الواقع حين نادتها حنان لتتناول فطورها، اتجهت
إلى مائدة الطعام وهي تبتسم، لقد كانت حنان نعمة فاتن من بعد الله -عز وجل- إليها،
عادت لوعيها وإدراكها ما تملك في مقابل ما خسرت، خسرت ابنتها ولكن عوضت بحفيدة
بارة بها تحبها أشد الحب .. فالحمد لك يا الله كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
***
لحقت حياه بأختها في المطبخ، زهرة بالنسبة لها والدتها
التي فقدتها منذ سنوات والأخت التي تحب مداعباتها والجدال معها بالإضافة إلى
الصديقة التي تحمل أسرارها، إنها شقيقتها الكبرى ولكن لم تفكر في فارق السن بينهما
فقد كانت دائماً كأنها توأمها.
طلبت منها زهرة بينما تقوم بتقطيع الخضراوات أن تذهب
لتتأكد من استيقاظ الجميع بداية من والدهم وصولاً لأصغر أشقائهم.
همت بصعود الدرج عندما وجدت والدها يهبطه على مهل، ركضت
في إتجاهه وقبلت وجنتيه باسمة: صباح الخير يا أحلى بابا
ابتسم الأب بحنو: صباح النور يا حياه، أومال فين إخواتك
؟
- زهرة فالمطبخ بتحضر الفطار وأنا هاطلع أصحي الباقيين.
-طيب يلا روحي صحيهم بسرعة عشان ورايا شغل كتير.
- من عنيا، أنت تأمر بس يا روقه وأنا عليا أنفذ.
ضحك قائلاً: إيه روقه دي يا بنت ؟، هو أنا من سنك ؟
تأبطت ذراعه وهبطت معه الدرجات المتبقية قالت بجدية: أنا أخاف أمشي معاك ف الشارع
يفتكروك خطيبي يا روقه وتقطع نصيبي.
سحب ذراعه منها قائلاً بصرامه: روحي صحي إخواتك.
رفعت كفها في تحيه عسكرية وقالت بإقتضاب مصطنع: علم
وسينفذ.
انطلقت تصعد الدرجات بسرعة، ابتسم والدها بعد انصرافها لكنها
تلاشت عند تذكره من طلب يدها قبل يوم.
حدثت نفسها بصوت هامس أثناء صعودها: مش معقولة هأكلم
بابا بزعل، أي نعم هو رفض إني أتجوز اللي بأحبه بس هو مايعرفش إني بأحبه، وبعدين
لسه قدامنا فرص كتير مش من أول مرة هأزهق، كمان لو بابا عرف إني عايزاه ما أعتقدش
هيرفض يعني دا بيحبني أوي وعايزني سعيدة بأي شكل .. يوووه بقى ربنا يستر ولساني ما
يتسحبش من مكانه ويخليني أقول لبابا كلمة تزعله .. وهو اللي عمره ما زعلني قبل
كدا! .. بس بقى بس، لما أروح أشوف الناس اللي نايمه دي وأنا اللي مانمتش ساعتين
على بعض .. إهئ إهئ .. أنا بايني أتجننت ولا إيه ؟؟ هههه
دفعت الباب على نحو مفاجئ وصرخت سائلة: ظبطك بالجرم
المشهود، بتعمل إيه عندك يا عم أنس ؟؟
انتفض أنس على إثر الصدمة وعندما رأها هتف بغضب: يا بنتي
إنتي مش هتبطلي الأسلوب بتاعك دا ؟؟
وضعت يديها في خصرها: بنتك والأسلوب بتاعي ؟ .. أنت مش
شايف إنك خدت عليا أوي يا سي أنس ولا إيه ؟
- أووووف بقى، إنتي إيه اللي جابك ؟
- جيت أقولك إن الفطار جاهز
عاد يجلس أمام حاسوبه قائلاً بعدم اهتمام: طيب طيب، روحي
وأنا جاي وراكي.
علقت مستهزئه: أه، على العشا مش كدا ؟
قال بملل وهو يضرب على لوحة المفاتيح كاتباً بضعة كلمات:
يا ستي قولت جاي.
اقتربت منه بهدوء وبدأت تقرأ ما كتبه من فوق أكتافه دون
أن يشعر بها ظناً منه أنها غادرت الغرفة وأخيراً.
هتفت بصدمة: أنت بتحب يا أنس !
ارتعشت يديها الممسكة بالفارة وأغلق الصفحة التي كان
يجري بها الدردشة بسرعة لكن ظهره ظل في مقابل وجه شقيقته.
أدارته ناحيتها وجلست على طرف الفراش تسأله بهدوء: مين
دي ؟
لعلمه عن إصرار أخته وأنها لن تتركه حتى تعلم الحكاية
بتفاصيلها وأيضاً خوفاً من إخبارها لوالدهما تحدث ببطء ونظره لا يتزحزح عن حذاءه
المنزلي: واحدة.
- ما أنا عارفه إنها واحدة، حد قالك إني فاكراها واحد ؟،
قصدي عرفتها إزاي .. اسمها إيه .. تعرفها منين؟
-اسمها داليا وعرفتها من النت .
-من النت ؟ إزاي يعني ؟
- عادي، اتعرفت عليها من الفيس، شوفتها ف جروب وكانت
تعليقاتها وكلامها بيعجبني، حسيت تفكيرها نفس تفكيري بعتلها أدد وهي قبلته وبدأنا
نتعرف على بعض.
-إممممم ... قولتلي.
وبعد صمت لثواني معدودة مرت على أنس كالسنوات، سألته: دي
عندها كام سنة بقى ؟
تردد قليلاً قبل أن يقول باستسلام: 40.
-نعم ؟؟؟؟
لوى شفتيه وقال هازئاً: أنا عارف إنك مش هتفهميني.
-دي قد عمرك أربع مرات يا ابني، أفهم إيه بس ؟؟؟
توقفا عن الكلام عندما سمعت والدها يطلب منهم الإسراع
حتى لا يتأخر عن عمله، نهضت من مكانها وأمرت أخيها: روح صحي محمود وأنا هاروح أشوف
عصام
تبعها للخارج وقبل أن تتركه لترى شقيقها الأخر نظرت إليه
متوعدة: وهنتكلم في الموضوع دا تاني بس لما نبقى لوحدنا
ابتعدت عنه، وجدت شقيقها عصام يقوم بفرز بعض الأوراق على
الأرض، أخبرته أن موعد الإفطار قد حان فترك ما بيده ونزل بصحبتها.
سألته بصوت يشوبه الحزن أثناء نزولهما الدرج: لسه مصمم
تسافر ؟
ابتسم ولكن إذا تم اعتبارها ابتسامة من الأصل: فات
الكتير ما بقى إلا القليل .. كلها كام شهر وأخد الدكتوراه وأجي أقعد على قلبكوا
بعد كدا
-يعني دي أخر مرة تسافر فيها؟
-قولي يا رب
-أنت بتوحشني أوي يا عصام
ضمها إلى صدره: وإنتي بتوحشيني أكتر، بس هانت إن شاء
الله
أبعدها رافعاً نظارته الطبية ويفرك عينيه ليمحو الدموع
المتجمعة بداخلها: بس بقى، عجبك كدا ؟، هتخليني أعيط والحاج يفتحلي موال.
مرت من أمامهما زهرة وهي تحمل طبقاً في يدها: حياه روحي
هاتي طبق العيش والمخلل من المطبخ وأنت يا عصام يلا بسرعة بابا مستعجل.
عصام: طيب، أديني رايح أهو.
0 التعليقات:
إرسال تعليق